رفتن به محتوای اصلی

الحب الغامض الذي عاشته سيمون دو بوفوار

سيمون دو بوفوار
AvaToday caption
القصة عن فتاتين التقيتا في سن العاشرة تقريباً في مدرسة فرنسية تحت أعين الراهبات غير المتسامحة، وسرعان ما توطدت بينهما صداقة قوية وحيوية، امتدت لعشرة أعوام. خلالها، أتيح لكل واحدة منهما استكشاف الحياة في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى
posted onSeptember 17, 2021
noدیدگاه

من يعرف زازا، الفتاة التي اختتمت الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار الجزء الأول من سيرتها الذاتية "مذكرات فتاة رصينة" بمشهد موتها المفجع، على فراش عيادة في سان كلو، وقد افترستها الحمى حتى النخاع، يتعرف بسهولة على أندريه بطلة روايتها المحجوبة لسبعين عاماً من كتابتها، و35 عاماً على موت مؤلفتها.

إنها إليزابيث لاكوين، رفيقة الطفولة والصبا والحب الأول في حياة بوفوار: "كثيراً ما تظهر لي في الليل، بوجه ممقوت تحت وشاح وردي، ويبدو أنها ترمقني بعتاب. لقد كافحنا معاً ضد مصير مقزز كان في انتظارنا، ولطالما اعتقدت أنني بموتها، دفعت ثمن حريتي".

في عام 1954 ظنت بوفوار أن بوسعها الإمساك بشبحها على الورق من مسافة كافية، الشبح الذي ما فتئ يطاردها على مدى 25 عاماً. وحين عرضتها على سارتر، أبدى تحفظه من نشرها، على الرغم مما تؤكده ابنتها بالتبني سيلفي لابون دو بوفوار في المقدمة، من أن قرار عدم النشر يعود إلى بوفوار نفسها، إذ لم تصل بعد كثير من المحاولات الفاشلة إلى نص "ترضى عنه".

صدرت الرواية أولاً 2020 في نسختها الفرنسية بعنوان "غيرالمنفصلتين"، تحرير شارلوت نايت، المحررة المعروفة التي وصفتها بأنها رواية مؤثرة وجذابة عن الصداقة الأنثوية وإيجاد طريقها الخاص في العالم. أعقبها صدور ترجمتين إلى الإنجليزية في سبتمبر (أيلول) 2021، منها الترجمة الصادرة عن دار النشر الأميركية إكو قبل أيام، المختتمة بكلمة من سيلفي "كانت سيمون في خضم أول علاقة غرامية لها".

القصة عن فتاتين التقيتا في سن العاشرة تقريباً في مدرسة فرنسية تحت أعين الراهبات غير المتسامحة، وسرعان ما توطدت بينهما صداقة قوية وحيوية، امتدت لعشرة أعوام. خلالها، أتيح لكل واحدة منهما استكشاف الحياة في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، واختبار ألغاز الطفولة والمراهقة، والمنافسة القوية على المركز الأول في الدروس، وهو ما راق المعلمات، فشجعن صداقتهما التي أخذت تزداد وتتعمق حتى أصبح الجميع يدعونهما "اللتان لا تفترقان". "ذات مساء كنت أخلع سترتي حين ظهرت زازا فأخذنا نتحدث ونعلق، وتسارعت الكلمات إلى شفتي وكانت تدور في صدري ألف شمس وقلت لنفسي فجأة في بهرة من الفرح: "تلك هي التي تنقصني".

قبر سيمون دو بوفوار و جان بول سارتر- الصورة : كارزان حميد شبكة (AVA Today) الأخبارية

بيد أن العلاقة المطروحة من قبل سيلفي بضمير المتكلم، لم تنبن على مجرد التشابه بقدر ما قامت على الاختلاف؛ أندريه هي القطب الآخر المختلف، الشخصية التي تختزن حرارتها داخلها عوضاً عن تفريغها أولاً بأول، نموذج للفتاة المترعة بالأعراف والتقاليد، المتفهمة لأعذار الجميع وبخاصة أمها، وهي الحساسية التي استعصت على شخصية حاسمة مثل سيلفي اختبارها، فطوحت بكل ما تمسكت به صديقتها بركلة قدم. "كان نبلها يغيظني، وكانت تتفهم جميع هؤلاء الأشخاص الذين لم يكونوا متفاهمين فيما بينهم والذين كان عدم تفاهمهم يعود عليها وحدها بالأضرار".

حين تقع أندريه فريسة التخبط الداخلي لحظة الاختبار المرير للعقائد وكشف زيف العادات والتقاليد تنفتح أمامها جميع الهوات كما يحدث لكل من يكف عن الإيمان، وهنا تنتصر بوفوار لتمردها المنبوذ "كنت أراها تتخبط ضد هذا الدين المعذب، فأسر لكوني قد أفلت منه". فهل أفلتت بوفوار حقاً من شبح إليزابيث؟

من وجهة نظر الروائية والناقدة ديبورا ليفي، لم تتمكن بوفوار أبداً من كتابة شبح صديقتها بشكل مقنع تماماً، لذا استمرت في العودة لمحاولة الإمساك بها على الورق في معظم أعمالها. ربما كانت رغبتها الشديدة في أن تطالبها بالحياة التي تستحقها أقوى من رغبة أندريه من أن تخاطر بكل ما ستخسره: الله، عائلتها، الاحترام البرجوازي.

يبدو جلياً أن رضوخ أندريه لم يكن نهائياً، فقد كافحتا معاً الأفكار التقليدية التي ينبغي أن تتحلى بها المرأة في أوائل القرن العشرين (مطيعة، عفيفة، مثالية، راعية). وبينما كانت الفتاة الحالمة المضطربة تعاني بهدوء، مختزنة تمردها بين طيات اللحم والجلد، لم تستطع سيلفي ذات النظرة الثاقبة والقدرة المدهشة على الملاحظة، الإشاحة عن النفاق الديني.

"كنت أحسد في كثير من الأحيان استقلال أندريه، فجأة، بدت أقل حرية مما كنت عليه. كانت تحمل خلفها هذا الماضي. وحولها، هذا المنزل الكبير، العائلة الهائلة: سجن، تخضع أبوابه لحراسة مشددة".

نشأت أندريه لتتزوج زيجة لائقة. فلا شيء يمكن أن يقنع أمها بخلاف ذلك: لا عقل أندريه الفطن والذكي، الذي أكسبها مكانة في جامعة السوربون، ولا حماستها للأدب وموهبتها الموسيقية. لقد عاشت ممزقة بين ولائها لوالدتها وعطشها للحرية، ونمت بائسة ومسعورة وهشة بشكل مخيف، حتى ذات يوم، في خريف عام 1929، بينما كانت بوفوار وسارتر يبدآن علاقتهما، أصيبت بحمى، وصداع مؤلم وظلت تنادي على فراش الموت "كمان، براديل، سيمون، شمبانيا".

عن طريق سيلفي نتعرف على القواسم المختلفة التي نشأت كل منهما فيها، دائرة المعارف؛ الأمهات، الأشقاء، الأصدقاء، العلاقات العاطفية... وعلى الرغم من تسطيح شخصية الساردة وتقليصها في دور المراقب النهم لصديقتها الرائعة، فهي تساعدنا على فهم التوجه الفكري لصاحبة كتاب "الجنس الآخر"؛ أحد النصوص التأسيسية للنسوية المعاصرة.

يتضاءل الفرق عند بوفوار بين الصديق والعشيق، مثلما يتضاءل بين الحب تجاه ذكر أو أنثى، فهي على قناعة بأن لدى غالبية الفتيات ميولاً سحاقية لا تختلف كثيراً عن مظاهر حب النفس النرسيسية تجاه من يمتلك نعومة جسمها نفسها، وتقاطيعه المرغوبة من الرجال. كما لا ترى في السحاق ضرباً من ضروب التفنن والتسلية لدى المرأة، ولا يشكل لعنة من القدر تحل عليها، وإنما هو موقف تتخذه المرأة كرد فعل على أوضاعها في المجتمع، طريقاً من الطرق الأخرى لحل مشاكلها بوجه عام. ومشاكلها الجنسية بوجه خاص. كتبت بوفوار: "الحب بين النساء نوع من التأمل، ينتفي فيه الانفصال، لا قتال ولا نصر ولا هزيمة. كل منا ذات وموضوع، سيد وعبد في معاملة بالمثل".

في قصة "الحذاء الأحمر" لهانز كريستيان أندرسن، تنتعل البطلة حذاء أحمر في الكنيسة. قيل لها إنه غير لائق، لكنها لا تستطيع المقاومة. فتحل عليها اللعنة، ولا تستطيع خلع حذائها، ويحكم عليها بالرقص بلا توقف إلى الأبد. في النهاية، تجد جلاداً تطلب منه قطع قدميها. يقطعهما بالفعل وتتخلص من الحذاء، لكن قدميها المبتورتين تستمران في الرقص. تتساءل ليفي، هل تمثل أندريه جلادها؟

لم يكن شعور سيلفي تجاه أندريه وهما يكبران مجرد حب؛ إنه نوع فائق من الحب، الحب بكامل الكيان، والذي من خلاله يجب تعريف كل حب والحكم عليه: "كان بإمكاني فقط تصور نوع واحد من الحب: الحب الذي كنت أحمله لها".

ومع ذلك، فإن حب سيلفي لا يحظى بمقابل لأن "حب أندريه لأمها جعل علاقاتها الأخرى باهتة بالمقارنة". في المقابل، لا يتم مبادلتها بحب مواز، لأن مدام غالارد لا تنظر إلى ابنتها على أنها كائن حي لا يضاهى، بل مجرد مؤدية لـ"الواجبات الاجتماعية"، وهي فتاة في سن الزواج يجب الحفاظ على تقواها وطاعتها لأسرتها لتصبح امرأة محترمة. "لا شك أنها أحبت أندريه بطريقتها، ولكن ماذا كانت تلك الطريقة؟" تتساءل سيلفي.

المشكلة التي تشغل الرواية ليست من أحب أندريه أفضل، ولكن ما هو نوع الحب الذي كان بوسعه أن يمنحها الحرية التي تتوق إليها. وهو ما يحفز سيلفي في نهاية المطاف حين ترى قبر صديقتها مكدساً بالزهور البيضاء، كرموز لفضيلتها التي لم تقع في الشرك، أن تضع فوق تلك الوفرة النقية، الخانقة، ثلاثة ورود حمراء.