رفتن به محتوای اصلی

الكشف مثلية تشايكوفسكي في "كان"

تشايكوفسكي
AvaToday caption
حكاية الزوجين كان سبق ان أفلمها المخرج البريطاني كن راسل في فيلمه "محبو الموسيقى" في العام 1971 (بالإضافة إلى فيلم سوفياتي لإيغور تالانكين عن سيرة تشايكوفسكي في العام 1969)
posted onMay 20, 2022
noدیدگاه

مسابقة الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان "كان" السينمائي بدأت تكشف عن ملامحها، وقد انطلقت عبر الفيلم الروسي المنتظر "زوجة تشايكوفسكي"  للمخرج كيريل سيريبرينيكوف. أسباب هذا الانتظار عديدة: أولاً، سيريبرينيكيوف منشق عن نظام بوتين، والكل ينتظر ما سيقوله في فيلمه هذا عن أحد أبرز رموز الثقافة في بلاده. ثانياً، نادراً ما تناولت السينما، روسية كانت أو غير روسية، تفاصيل من حياة تشايكوفسكي. ثالثاً وأخيراً، وهذا السبب هو أكثر الأسباب التي تدعو إلى الترقب: سيريبرينيكوف صاحب موهبة كبيرة، تتكرس فيلماً بعد فيلم، كأحد الأصوات المهمة في السينما الروسية المعاصرة، علماً أنه بات منذ فترة حراً طليقاً يقيم في برلين، بعدما عاش في إقامة جبرية لسنوات داخل بلاده. ورغم أن معاناته مع النظام الروسي شديدة الانصهار في الحاضر وهي مادة دسمة للشاشة، فأفلامه الأخيرة تتموضع في الماضي، علها تقول شيئاً عن الحاضر، في نوع من حوار بين الأزمنة.

دعونا لا نتأخر في الاعلان أننا أمام فيلم يحمل قدراً هائلاً من الجمال على مستوى الشكل والمضمون. فيلم يتعقّب التراث الروسي السينمائي، تراث لا يخلو من شاعرية وتفكيك خفايا الطبيعة البشرية بشغف وإصرار، وبضربات متتالية على وتر المشاعر. لدرجة أن إيجاد أفلام تنافس "زوجة تشايكوفسكي" في صناعة مثل هذه الروعة، تحدّ في ذاته.

الفيلم يمعن في القسوة ويغرق في الشغف مستعيداً بدقة حقبة ولد منها العالم الذي نعرفه اليوم. ينوه المخرج في مطلعه أنه ينقل الأجواء التي كانت سائدة في روسيا في نهاية القرن التاسع عشر، لا سيما في ما يختص شروط عيش المرأة المتزوجة دينياً، والمعاناة التي كانت في انتظارها إذا قررت الطلاق. مع ذلك لا يحمل الفيلم نفساً نسوياً ولا يركب موجة الانتصار للمرأة باسلوب اعتباطي. "زوجة تشايكوفسكي" بورتريه لأنتونينا ميليوكوفا (أيلونا ميخايلوفا) التي تزوجت بيوتر إيليتش تشايكوفسكي (أودين بيرون) لثلاثة أشهر، بعد وقوعها في غرامه بالرغم من مثليته الجنسية. هي شابة شديدة التدين تدرس الموسيقى، وهو فنان مشهور ينبذ العلاقات الاجتماعية. الفيلم برمته يصوّر تفاصيل هذا الزواج الكارثي بينهما، منذ لحظة اللقاء الأول الذي يتحول حباً وهوساً من جانبها، حتى المشهد الذي ستبوح فيه بأسرار فؤادها، وصولاً إلى الفقدان التدريجي لعقلها ووعيها. شد حبال بين طرفين، لا يوجد فيه أي تفاهم وأي شكل من أشكال الرومنطيقية، علماً أن المخرج قرر إحاطة القصة بقدر هائل من الحب والعناية والشاعرية في تجسيده لمسألة نفسية وعاطفية معقدة.

حكاية الزوجين كان سبق ان أفلمها المخرج البريطاني كن راسل في فيلمه "محبو الموسيقى" في العام 1971 (بالإضافة إلى فيلم سوفياتي لإيغور تالانكين عن سيرة تشايكوفسكي في العام 1969). ولكن أن يصورها روسي فهذا شيء آخر! إذ يضعنا في قلب هذا الاضطراب العاطفي وهذه العاصفة الهوجاء مستخدماً لغة سينمائية تفخيمية وجمالية رهيبة. هذا كله تنتج عنه مشاهد تحلّق بنا إلى السماء السابعة، ستصمد في ذاكرتنا لفترة طويلة، وكلها تدور حول أنتونينا ومعاناتها في الإذعان إلى واقع ليس حقيقياً، واقع يعيش ويتطور في ذهنها.

يتبنى الفيلم وجهة نظرها في سرد الأحداث التي ستتحول هوساً وجنوناً وتعلقاً مرضياً كلما تطورت ووصلت إلى خواتيمها. الفكرة الجيدة التي تعطي الفيلم طعماً آخر، هي خلوه من موسيقى تشايكوفسكي. بدلاً من اللجوء اليها، قرر المخرج أن يكون الفيلم بأكمله ترجمة بصرية لرومنطيقية موسيقى تشايكوفسكي. حركة اللحن تُستبدل بحركة الكاميرا (تصوير مدهش لفلاديسلاف أوبيليانتس) التي تجعلنا نبحر بعيداً في الخيال. في هذا كله، يؤكد سيريبرينيكوف الذي يستعد حالياً لتقديم "الراهب الأسود" لتشيكوف في مهرجان أفينيون الفرنسي، إنه رجل مسرح يعرف تماماً كيفية المزج بين الفنين. فيلمه مسرحي بقدر ما هو سينمائي.

لا يشرح الفيلم كل شيء، وفي هذا يكمن بعض من جماله. يترك الكثير من الفجوات والأسئلة المعلقة. حتى الكلام الذي تحتاجه احياناً الشخصيات لتبرير مواقفها وشرح خياراتها، غائب لمصلحة لغة بصرية تتيح للمخرج أن يقدم قصيدة مزنرة بالتوتر والهلوسات التي تتقاطع مع لحظات أكثر واقعية وتعطي انطباعاً بأننا في حلم من أحلام اليقظة. مَن يدخل الصالة وهو لا يعلم شيئاً عن ميول تشايكوفسكي الجنسية التي كانت تمنعه حتى من تقبيل امرأة، لن يعلم الكثيرعن الموضوع. حتى أنتونينا نفسها ما كانت تعلم أنه يفضّل الرجال على النساء، حتى اللحظة التي تنطق فيها شقيقته بالمعلومة. هذا الخيار في قول الأشياء تلميحاً ومن دون مسميات، يولد فيلماً ينطوي على ألغاز كثيرة وفيه جوانب لا تنتظر أي شرح.

لا، الفيلم ليس سيرة لتشايكوفسكي الغارق في الديون والذي يخاف أن يفضحه المجتمع الأرثوذكسي، ولا تصويراً لمراحل مختلفة من حياته الفنية والموسيقية. الفيلم لا يتبع أي رواية رسمية للحديث عنه. يقول المخرج شارحاً: "في روسيا، تشايكوفسكي قامة كبيرة لم تتعذب ولم تعش حياة شخصية. حياته الشخصية بقيت مجهولة لدى الروس كافة". يمكن أن نسقط على الفيلم قراءات سياسية عدة، فهو في الختام استعارة للسلطة. هناك مَن يرى أن العلاقة بين الزوجين شبيهة إلى حد بعيد بعلاقة روسيا بشعبها، فهي علاقة قوة لا تطمح إلا للإستعباد.

"زوجة تشايكوفسكي" يصوّر الفارق بين الحب والتعلق، بين الاهتمام والهاجس، بين الانتماء والتملك، ليرينا كيف أن هذه العلاقة على الرغم من قسوتها، ألهمت الموسيقي. يضع سيريبرينيكوف كثيراً من روسيا في هذا الفيلم، كثيراً من هواجسه السينمائية والنتيجة مبهرة على أكثر من صعيد.