Skip to main content

"بي بي سي" تنصر كارل ماركس

تمثال كارل ماركس في مدينة كيمنيس الألمانية
الصورة: كارزان حميد - شبكة (AVA Today) الإخبارية
أعلنت المحطة البريطانية شديدة الرسمية أنها تريد أن تعرف من مستمعيها بشكل عام من هو ذاك الذي يعتبرونه أعظم فيلسوف عرفته البشرية في تاريخها
posted onAugust 30, 2023
nocomment

كان حدثاً فكرياً ولكن إذاعياً - إعلامياً أيضاً فريداً من نوعه، ولربما كان آخر حدث من هذا النوع عرفه الإعلام الأوروبي حتى اليوم على الأقلّ. ففي صيف عام 2005 كانت الفلسفة قد استعادت بعض بريقها وبدا أن ثمة كثراً من الناس يهتمون بها ولا سيما في العواصم الأوروبية حيث راحت تنتشر "مقاهي الفلسفة" وتصدر الكتب التبسيطية شارحة أسرارها وأفكار كبار أعلامها، بعد أن سئم كثر من القراء والمهتمين من علامات النصر يرسمها الليبراليون الجدد مبتسمين ويمعن رائدهم الفكري فرانسيس فوكوياما، كما يفعل منافسه صمويل هانتنغتون، أولهما في إعلانه "نهاية التاريخ" وثانيهما في إعلانه استتباب عصر "صراع الحضارات"، في إعلان نفسيهما الوريثين المتنازعين لمملكة الأفكار بعدما ماتت كل الفكرانيات العقلانية، وبخاصة بالنسبة إليهما بعد أن انتهى زمن كارل ماركس إلى درجة أنه لم يعد جديراً حتى بأن يوضع في المتحف.

كان لسان حالهما معاً ولكن من منطلقين مختلفين يقول إن هذا المفكر الألماني قد تعب وآن له أن يدفن، بات بلا مريدين وجديراً بأن ينسى تماماً، ومن هنا من الطبيعي القول إن ذينك المفكرين الأميركيين قد أبديا دهشتهما حين اجتمع في لندن، ما إن انقضى القرن الـ 20، مئات من المفكرين ليدرسوا فكر كارل ماركس مركزين على كونه الوحيد الذي عرف كيف يحلل الرأسمالية بصرف النظر عن خطل أيديولوجيته، ضحكا وقالا: ليس هؤلاء سوى أيتام يبكون أباهم فليفعلوا ويريحونا منه ومنهم، وكان موقف منطقي إلى حدّ ما على أية حال، لكنه لن يصمد طويلاً.

وكانت محطة الإذاعة البريطانية غير المعروفة طبعاً بأي تعاطف لا مع ماركس ولا مع أفكاره، من سيرد عليهم، صيف 2005، وبطريقتها المهنية العقلانية التي تتسم عادة بالموضوعية، ولكن دعونا لا نستبق الأمور هنا. فالحقيقة أن ما قامت به محطة "بي بي سي" يومها ستفاجأ هي بنتائجه قبل أي شخص أو طرف آخر، ولنتابع الحكاية، فلقد أعلنت المحطة البريطانية شديدة الرسمية أنها تريد أن تعرف من مستمعيها بشكل عام من هو ذاك الذي يعتبرونه أعظم فيلسوف عرفته البشرية في تاريخها، ولعلّ المفاجأة الأولى كانت عددية، إذ ما إن انقضت أسابيع أعطتها المحطة مهلة لمن يحب أن يشارك في ذلك الاستفتاء، حتى كان عدد المشاركين يتجاوز الثلاثة ملايين مشارك، ما يضعنا بالتأكيد أمام واحد من أعرض الاستفتاءات الفكرية في تاريخنا المعاصر، والحقيقة أنه لئن تبدت المحطة كلاسيكية ومحافظة في طرحها سؤالها الوحيد والبسيط، فإنها لم تألُ جهداً في دعم السؤال بنوع من فقرات يومية وأسبوعية تستضيف فيها عدداً من كبار مفكري وصحافيي وأساتذة الجامعات لكي يتحدث كل منهم إما عن فيلسوفه المفضل وإما عمن يتوقع له أن يفوز بأكبر عدد من الأصوات سواء كان مؤيداً له أو غير مؤيد، وهكذا وبسرعة تحولت المسألة إلى قضية فكرية راحت تشغل الناس وانتشرت المراهنات والتخمينات.

والحقيقة أنه في خضم ذلك كله كثرت الأسماء المطروحة من كل الأمم والثقافات وترددت أسماء كثيرة بين النتائج المحتملة أو المتوقعة، وبخاصة اسم الفيلسوف الإغريقي المؤسس أفلاطون الذي لم يفت مَن دافعوا عنه ورشحوه للفوز أن يعيدوا ويكرروا للمناسبة ما قاله عنه الفيلسوف ألفريد نورث وايتهيد حاسماً "أن الفلسفة الغربية كلها تبدو وكأنها ليست أكثر من هوامش على فلسفة أفلاطون"، وكان واضحاً إذاً أن أفلاطون سيكون الفائز بمرتبة الصدارة، ومن هنا تحوّل الرهان قبل أيام قليلة من إعلان النتائج إلى التساؤل عمن سوف يشغل المراتب الـ 10 التالية. سقراط أم هيغل؟ كانط أم شوبنهاور؟ نيتشه أو كيركغارد أم سارتر أم مَن؟ والطريف أنه حين كان كاتباً معاصراً من هنا أو صحافياً من هناك، يحاول أن يقترح ولو بحياء شديد أو بشيء من "الوقاحة"، بحسب تعبير أحد المعلقين يومها، مكاناً لماركس بين الـ 10 الأول، كان يقابل بابتسامة لطيفة مشفقة على مؤسس الماركسية من فداحة الموقف الذي وضع فيه، وحين حاول صحافي في "الغارديان" أن يذكر على سبيل التذكير فقط بالمؤتمر الضخم الذي أقيم في لندن لبحث "ما تبقى من فكر ماركس" قبل ذلك بأشهر لا أكثر، علق عليه أحد المستمعين قائلاً "في أي زمن يعيش هذا الرجل؟"، والحقيقة أننا لن نعرف أبداً ما كان تعليق ذلك المستمع نفسه بعد أيام قليلة حين أعلنت النتائج من على محطة "بي بي سي" نفسها لتقع كالقنبلة الحارقة وسط كل تلك المعمعة، وأتت النتائج لتقول ببساطة إن كارل ماركس لم يسقط أفلاطون بالضربة القاضية فقط، بل إن هذا الأخير حلّ في المركز الخامس مع ما لا يزيد على 5.65 في المئة من أصوات المشاركين، وقد حلّ قبله الإيرلندي ديفيد هيوم والنمسوي لودفيغ فيتغنشتاين والألماني فردريك نيتشه في المراكز الثاني والثالث والرابع تباعاً، ولكن أين كارل ماركس؟ في المركز الأول وبخمسة أضعاف ما ناله أفلاطون من أصوات المشاركين: 27.9 في المئة، وكانت المفاجأة مذهلة، والحقيقة أن كثراً كان من شأنهم أن يشككوا بالنتائج لولا أنها صادرة عن "بي بي سي" من دون غيرها.

يومها اعترف مقدم البرنامج على المحطة البريطانية العريقة بأنه لم يتوقع، ولو لحظة منذ صاغ برنامجه وراح يتابعه أسبوعاً بعد أسبوع، بأنه سوف يسفر عن تلك النتيجة، ومع ذلك احتفلت "بي بي سي" في اليوم التالي لإعلان النتائج النهائية مع أرقامها، بفوز ماركس مذكرة بأنه عاش آخر حياته في لندن وهو مدفون فيها، احتفلت عبر تخصيص برنامج بأكمله للحديث عن ماركس وفكره واستضافت للحديث عنه فيه كبار المفكرين من "ماركسيين" وغير "ماركسيين"، لكنها لم تتغاضَ عن الاحتفال بعد ذلك ببقية الـ 10 الذين شاركوه الفوز، إذ إلى جانب الخمسة الأول حلّ في المركز السادس الألماني إيمانويل كانط، ولكن ليس مواطنه وخليفته هيغل الذي غاب عن اللائحة غياباً غريباً هو الذي كان يقال عادة إنه إذا كانت الفلسفة الغربية قد ابتدأت مع أفلاطون فإنها اختتمت مع هيغل، ثم القديس توما الأكويني، الجزائري الأصل وأحد كبار المجددين في الفكر المسيحي في القرون الوسطى وصاحب "الاعترافات" الشهيرة، في المركز السابع، يليه سقراط أستاذ أفلاطون الكبير في المركز الثامن، فأرسطو الذي احتل المركز التاسع ليأتي كارل بوبر الأكثر معاصرة بين المجموعة في المركز العاشر، وطبعاً سيكون في اللائحة عشرات الأسماء الأخرى لكن التركيز جرى على هؤلاء الـ 10، بل حتى بشكل خاص على كارل ماركس الذي بدا أكبرهم جميعاً هو الذي لم يكن ليجرؤ على أن يقدم نفسه خلال حياته كفيلسوف بل كعالم اقتصاد وثوري مشاكس لا أكثر ولا أقلّ!

وبقي أن نذكر هنا ما أعلنته المحطة البريطانية في تقاريرها المتلاحقة عن مجريات البرنامج من أن مواقع المحطة قد راحت تزداد طلبات المشاركة فيها بمعدل 30 ألف طلب جديد كل أسبوع، إلى درجة بات معها ما يزيد على نصف الاشتراكات الإجمالية التي صار يتمتع بها الموقع تخص برنامج "في زماننا" in our time الذي قدم الاستفتاء ضمن نشاطاته وتحت إشراف مقدمه ميلفن براغ الذي "زادت نجوميته أضعافاً بفضل هذا البرنامج".

علماً وبحسب ما أعلنت المحطة أن البريد الإلكتروني للموقع والذي كان يتلقى 150 ألف رسالة في الأسبوع "بات الآن يتلقى نحو 300 ألف رسالة أسبوعياً خلال فترة التصويت" ما جعل برنامج "في زماننا" يعتبر طوال تلك المرحلة ثاني برامج المحطة شعبية بعد برنامجها الشهير "رماة السهام"، وهي شعبية ظلت ترتفع لتصل إلى الذروة مساء 14 يوليو (تموز) من ذلك العام، حين أعلنت النتائج بعد أسبوع من انتهاء قبول الإجابات.