Skip to main content

التعددية القطبية بين الواقع والتمني

تعددية الالوان
AvaToday caption
بالنسبة لجمهور إعلام الممانعة، هذه الاعتراضات لا قيمة لها، إذ هي المنتقاة وهي المجترة وهي المدرجة خارج السياق، وليس من شأنها تبديل القناعة بأن الخير في المحور وإيران والصين وروسيا
posted onJanuary 1, 2020
nocomment

حسن منيمنة

من يستمع إلى إعلام محور "الممانعة"، أي الجهد الإعلامي الداعم لإيران والذي تمكن من وراثة التوجهات القومية واليسارية في المشرق وسائر المحيط العربي، يستطيع أن يطمئن إلى أن الولايات المتحدة، وهي رأس الشر في العالم وفق الإغراق في التصوير حتى الثمالة لدى هذا المحور، "مأزومة اقتصاديا ومهزومة عسكريا"، ويمكنه أن يتوقع أن تنهض قوى "الخير" البديلة، الصين وروسيا وإيران، لتنقذ العالم من الهيمنة وامتصاص الثروات وترتقي به إلى ما فيه مصلحة الشعوب.

بل وفق الزعم وعلى ما تشير بيانات ومعطيات وتصريحات جرى انتقاؤها بعناية وإهمال أضدادها بما يفيد المقصود، فإن زمن الأحادية القطبية قد ولّى، والعالم اليوم يشهد للتوّ تحالفات جديدة من شأنها الإسراع بانحدار الولايات المتحدة وسقوطها، وفشل محاولاتها المستميتة العقيمة لبسط نفوذها أمام الانتصارات المتواصلة للمقاومة، وتقدم روسيا عليها في إنتاج السلاح المتطور، وارتقاء الصين إزاءها في الاقتصاد والابتكار.

في إعداد هذا التوجه الإعلامي المستقيل عن الواقع مزيج متبدل من الأمل والدجل. فحيث تتوفر المعطيات لتسمح بالتصوير السلبي، يجري اعتمادها مع ما تحتمله من التضخيم والتعظيم، وحيث تغيب، فإن التعويض يكون من خلال الانطلاق من فرضيات، مهما تهافتت، بشكل أسئلة واحتمالات، سرعان ما يبنى ويؤسس عليها، أقوالا واستنتاجات، لتضيع ذكرى أنها من آفات الرأي.

الإعلام الممانع بحاجة إلى هذا الجهد للمحافظة على صورة مشرقة لإيران قادرة ومتماسكة، شريكة وحسب في مجهود تعاضدي يسعى إلى حماية الشعوب من غطرسة القوة العظمى وجشعها الذي لا يشفى، للإضرار بالمنطقة ونهب ثرواتها. وحسنا فعلت إيران، وفق هذا الإعلام، إذ تشابكت بأيديها مع الصين وروسيا، الجبارين الصاعدين في عالم توّاق إلى التحرر من الاستعمار الجديد، على طريق الحرير والرخاء للجميع.

أما أن إيران تحكمها طغمة كهنوتية عسكرية تقتل أبناءها ساعة يرفعون الصوت احتجاجا، فتفصيل يجدر إهماله. أما أن محور الممانعة مجموعات تابعة جهارا نهارا في خدمة الشاهنشاهية الجديدة فكلام مرفوض لا يجوز تكراره وإن تفوه به أصحاب الأمر. أما أن روسيا المنخورة بالفساد تعتاش على فائض قوة من أمس عظمة آفلة، فمزاعم يحكم ببطلانها وإن توافقت مع المعطيات. أما أن الصين صاحبة مشروع شمولي مركزي لا أخلاقي قائم على فوقية قمعية تطبقها للتوّ دون رادع في مخيمات "إعادة التربية" وفي أسرّة "التآخي بين الشعوب" في تركستان الشرقية، وتدعو دون حرج إلى تعميمه وتحظى له على تصفيق طغاة العالم، صغارهم وكبارهم، فدعاية يجب إنكارها مهما تضافرت الدلائل على صحتها.

بالنسبة لجمهور إعلام الممانعة، هذه الاعتراضات لا قيمة لها، إذ هي المنتقاة وهي المجترة وهي المدرجة خارج السياق، وليس من شأنها تبديل القناعة بأن الخير في المحور وإيران والصين وروسيا، والشر في الولايات المتحدة والغرب، في إبادة السكان الأصليين واسترقاق الأفارقة، في هيروشيما وفيتنام، في العراق، في أبو غريب وغوانتانامو، وفي الحرب الكونية على سوريا، وفي مأساة اليمن، وفي إنكار فضل المقاومة على لبنان، إذ دونها لتربّع البغدادي على ما يبدو على كرسي قصر بعبدا.

جمهور هذا الإعلام ليس مضلّلا في معظمه. ليس أن أحوال الأويغور مجهولة بالنسبة له، أو أن الدور الروسي في المقتلة السورية بعيد عنه. فالمسألة هي خيارات ومنطلقات وقيم قبل أن تكون وقائع ومعطيات.

إذ لا شك أنه ثمة رغبة جامحة لدى جمهور واسع في المنطقة العربية، لدوافع متفاوتة، بالتشفي بشرّ ما يقع للولايات المتحدة. على أن هذه الرغبة تبدو غالبا سابقة للدافع أو باحثة حثيثة عنه، فإن وجدته أشهرته ورفعته وعظّمته، وجعلت منه الأساس والحجة الدامغة. تبدو إسرائيل على رأس القائمة غالبا، فالولايات المتحدة دعمتها ومكّنتها. على أنه لا تعليق لهذا الإعلام على العلاقة الروسية الإسرائيلية الحميمة، أو على العلاقات التي تزداد تطورا وتقدما بين الصين وإسرائيل. طبعا، إسرائيل أكثر تداخلا مع الولايات المتحدة، ولكن المسألة بين هذا وذاك هي بالدرجات وليست بالمبدأ.

ليس أن الدوافع غائبة للاختلاف مع الولايات المتحدة أو لمخاصمتها، على أن صدق الموقف يتطلب التجانس، وهو غائب في أكثر الأحيان، كما يتطلب التمييز بين الواقع والتمني.

فالتمني الذي يصاحب الناقمين على الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة هو أن دورها كقوة عظمى وحيدة إلى زوال. فإذا ورد خاطر عابر لإنشاء قوة أوروبية مشتركة، على ضبابيتها ومحدوديتها، صدحت التعليقات بأن الحلف مع الولايات المتحدة شارف أن ينتهي، وإذا تبين أنه ثمة نمو اقتصادي في بعض دول العالم الناهضة، نشط الخطاب عن التفوق المرتقب لـ "بريكس" على الولايات المتحدة، وحين يندثر هذا الأمل وذاك، تستدعى الأرقام لتثبت أن العالم، بل الولايات المتحدة دون غيرها، سوف ترتعد يوم يستيقظ المارد الصيني.

واقع الأمر أنه بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الباردة، ومع الدخول في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، لا تزال الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، وذلك رغم التفريط الفادح لكل من رئيسها الحالي ورئيسها السابق بمقومات هذا المقام.

فالرئيس السابق باراك أوباما قلّص من موقع الولايات المتحدة ضمن المنظومة الدولية التي أنشأتها وقادتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مفسحا المجال لدور متجدد لروسيا التي تقلّصت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والرئيس الحالي دونالد ترامب استعدى الحلفاء ونفّر الأصدقاء بسلوكياته المتقلبة.

ولكن، رغم هذا وذاك، تبقى الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، ليس فقط من خلال اقتصادها الأول في العالم، وميزانية دفاعها المتفوقة على ما عداها وانتشارها العسكري في عشرات الدول، وحاجة هذه الدول إليها، ولا حتى من منطلق أن عملتها هي العملة العالمية ولغتها هي اللغة العالمية، وأن مساهمتها في المنظمات العالمية هي الأولى، بل بناء على واقع لا خلاف بشأنه، وهو أنه في جميع الدول ذات الاعتبار، العلاقة الخارجية الأولى من حيث الأهمية هي معها قبل غيرها.

فإذا صحّ اعتبار الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ثم اليابان والهند، في طليعة الدول ذات التأثير، فإن علاقة كل منها مع واشنطن هي الأهم بالنسبة لها، قبل اعتبار العلاقات الأخرى. وعلى وجه الخصوص، علاقة الصين مع الولايات المتحدة هي الأهم بالنسبة للسياسة الخارجية للصين، وعلاقة روسيا مع الولايات المتحدة هي الأهم بالنسبة للسياسة الخارجية لروسيا. أي أن الاصطفاف الصيني الروسي، والذي يأمل البعض أن يحقق التوازن بل التفوق إزاء الولايات المتحدة لا يستقيم إذا عملت واشنطن على استمالة أحد الطرفين، وهي لا تفعل، إذ لا تحتاج أن تفعل.

الولايات المتحدة اليوم في أوج قوة اقتصادها، وهي إذ تعاني من معضلات بنيوية حول طبيعة الدورة الاقتصادية المستقبلية ودور التأليل والذكاء الاصطناعي فيها وأثرهما على مجتمع غير مستعد، وحدود السلوك الاستهلاكي، والانتقال من اقتصاد المعلومات إلى اقتصاد الإبداع، فإنها في تحدياتها هذه تستبق ما سوف يواجهه العالم ككل، وإن في مراحل مختلفة.

والولايات المتحدة اليوم عند أقصى قوتها العسكرية. من شأن روسيا أن تنتج منظومة سبّاقة ما في مجال ما، ولكن روسيا عاجزة بالمطلق عن مجاراة الإنفاق والابتكار والقدرات الموضوعية للولايات المتحدة. ومن شأن روسيا الاستفادة من تقصير أوباما وقصور ترامب لتحقيق الانتصار في سوريا وللعودة إلى الشرق الأوسط، ولكن لروسيا، برئيسها القوي وبناها الضعيفة أن ترضى بهذه النجاحات الموضعية وحسب.

ومن شأن الصين، رغم مواطن الضعف العديدة في واقعها الاجتماعي والسكاني، والتي تهدد بأزمات وانفراط عقد، أن تتقدم وتسعى إلى صرف مكسبها الاقتصادي قوة عسكرية ونفوذ سياسي، غير أن واشنطن لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام هذه التحولات، وهي في أوائل مطالعها، إن كانت تشكل تهديدا لها أو لحلفائها.

القرن الماضي كان قرنا أميركيا، ابتدأ بتدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى لإنقاذ فرنسا وبريطانيا، وبرؤية أميركية لإنشاء عصبة الأمم، وبتكرار للتدخل المنقذ والرؤية المؤسسة لإقامة منظومة الأمم المتحدة، وبإدارة ناجحة للحرب الباردة، وصولا إلى التفرد الصريح بمقام القوة العظمى.

والعقدان الأول والثاني من هذا القرن كانا عقدين أميركيين، رغم تناوب رؤساء ملتبسين عليها. والولايات المتحدة تدخل العقد الثالث من هذا القرن وقد تهاوت كل التوقعات على مدى الأعوام الماضية حول اقتراب تراجع موقعها.

ما من مقام يدوم إلى ما لا نهاية. غير أنه ثمة فارق بين الترقب القائم على قراءة المعطيات، والتمني النابع من الرغبة والهوى. لا شك أن الأحادية القطبية والتي تحتفظ بها الولايات المتحدة سوف تنتهي يوما ما. غير أن يوم استتباب التعددية القطبية الموعودة لا يبدو اليوم محتوما في المستقبل القريب، وإن ساءت هذه الحقيقة للبعض.

كل عام وكل عقد والجميع بخير.