Skip to main content

سياسة تركيا المائية تخنق العراق

نهر دجلة
AvaToday caption
يبدو النهر مثل برك ناتجة عن مياه الأمطار، فالتجمعات الصغيرة للمياه في مجرى نهر ديالى هي كل ما تبقى من رافد نهر دجلة في وسط العراق الذي بدونه، لا يمكن زراعة أي شيء في المحافظة
posted onOctober 31, 2022
nocomment

تصنع تركيا التي ينبع منها نهر دجلة وتتدفق منها المياه إلى العراق (دولة المصب) من خلال سياستها المائية التي تعتمد على بناء السدود الضخمة، الحياة في الجانب التركي من الحدود مع العراق ومأساة إنسانية على الجانب العراقي حيث يعتبر نهر دجلة أهم رافد ومصدر رزق لمئات العائلات العراقية.

وتهدد التغيرات المناخية والنشاط البشري الجائر وسياسة تركيا المائية (وهي دولة منبع النهر) التي توجهت لتكثيف يناء السدود ما تسبب في تراجع كبيرة لمنسوب نهر دجلة في العراق، بالقضاء على شريان حيوي عمره آلاف السنوات ويعتبر مصدر رزق لمئات العراقيين.

وأصبح العراق اليوم واحدا من أكثر خمسة بلدان في العالم عرضة لعواقب تغيّر المناخ، بحسب الأمم المتحدة، مع الجفاف وانخفاض نسبة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة والتصحّر المتسارع.

وتأثّر بذلك نهر دجلة مع تراجع الأمطار وكذلك بسبب السدود المبنية في تركيا حيث ينبع النهر. وروى النهر جنة عدن وسومر وبابل عبر التاريخ، لكنه اليوم يصارع الموت.

وفي هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 42 مليونا ويعتبر مصدرا للحضارة وللزراعة، الكوارث الطبيعية لا تعد ولا تحصى. وبدءا من أبريل، تتجاوز الحرارة 35 درجة مئوية وتتتالى العواصف الرملية مغطية البشر والحيوانات والآلات بغشاء برتقالي.

ثم يحل فصل الصيف، موسم الجحيم بالنسبة إلى العراقيين، حين تصل الحرارة إلى 50 درجة مئوية وتنقطع الكهرباء بسبب زيادة الضغط على الشبكة.

وأجبرت كارثة تراجع منسوب نهر دجلة ووقوفه على حافة الجفاف السكان على تغيير أسلوب حياتهم.

وتبدأ الرحلة العراقية لنهر دجلة في جبال كوردستان عند تقاطع العراق وسوريا وتركيا

وعلى الحدود مع سوريا، قرب الحدود مع تركيا، يقول بيبو حسن دولماسا المتحدّر من قرية زراعية في منطقة فيشخابور والبالغ 41 عاما "حياتنا تعتمد على دجلة. عملنا وزراعتنا يعتمدان عليه"، مضيفا "إذا انخفض منسوب المياه، ستتأثر زراعتنا ومنطقتنا بالكامل. المياه تتناقص يوما بعد يوم. من قبل، كانت المياه تتدفق في سيول".

وتتهم السلطات العراقية والمزارعون الكورد في كوردستان العراق تركيا بقطع المياه عن طريق احتجازها في السدود التي أنشأتها على المجرى قبل وصوله إلى العراق.

وتؤكد الإحصاءات الرسمية ذلك، فمستوى نهر دجلة لدى وصوله من تركيا هذا العام لا يتجاوز 35 بالمئة من متوسط الكمية التي تدفقت على العراق خلال المئة عام الماضية.

وكلما ازداد احتجاز المياه، قلّ تدفق النهر الذي يمتدّ على 1500 كيلومتر يجتازها نهر دجلة قبل أن يندمج مع توأمه نهر الفرات ويلتقيا في شط العرب الذي يصب في الخليج.

ويشكّل هذا الملف مصدرا للتوتر بين تركيا والعراق وتطلب بغداد بانتظام من أنقرة الإفراج عن كميات أكبر من المياه.

وردا على ذلك، دعا السفير التركي لدى العراق علي رضا غوني في يوليو العراقيين إلى "استخدام المياه المتاحة بفعالية أكبر"، مضيفا في تغريدة "المياه مهدورة على نطاق واسع في العراق" حتى أن الخبراء يتحدّثون عن أساليب ريّ طائشة كما في زمن السومريين، يستمر المزارعون العراقيون في إغراق حقولهم لريّها ما يؤدي إلى هدر هائل في المياه.

وفي بعض الأماكن، يبدو النهر مثل برك ناتجة عن مياه الأمطار، فالتجمعات الصغيرة للمياه في مجرى نهر ديالى هي كل ما تبقى من رافد نهر دجلة في وسط العراق الذي بدونه، لا يمكن زراعة أي شيء في المحافظة.

وبسبب الجفاف، خفضت السلطات هذا العام المساحات المزروعة في كل أنحاء البلاد إلى النصف. ونظرا إلى أن لا مياه كافية في ديالى، فلن يكون هناك حصاد.

ويشكو المزارع أبومهدي (42 عاما) قائلا "سنضطر إلى التخلي عن الزراعة وبيع ماشيتنا ونرى أين يمكننا أن نذهب"، مضيفا "لقد شردتنا حرب إيران والعراق (في ثمانينات القرن الماضي). الآن سنهاجر بسبب المياه. بدون الماء سنصبح نازحين ولا يمكننا مطلقا العيش في هذه المناطق".

ويتابع أبومهدي "استدنتُ لحفر بئر عمقه 30 مترا، لكنه كان فشلا تاما"، موضحا أن المياه المالحة لا يمكن حتى استخدامها في الري أو للحيوانات.

وبحلول العام 2050 "سيؤدي ارتفاع الحرارة درجة مئوية واحدة وانخفاض المتساقطات بنسبة 10بالمئة إلى انخفاض بنسبة 20 بالمئة في المياه العذبة المتاحة" في العراق، وفق ما حذّر البنك الدولي نهاية العام 2021.

وحذّرت الأمم المتحدة والعديد من المنظمات غير الحكومية في يونيو من أن ندرة المياه والتحديات التي تواجه الزراعة المستدامة والأمن الغذائي، هي من "الدوافع الرئيسية للهجرة من الأرياف إلى المناطق الحضرية" في العراق.

وبحلول نهاية مارس 2022، نزحت أكثر من 3300 أسرة بسبب "العوامل المناخية" في عشر مقاطعات من وسط البلاد وجنوبها، وفقا لتقرير نشرته المنظمة الدولية للهجرة في أغسطس.

وهذا الصيف، كان منسوب نهر دجلة منخفضا في بغداد لدرجة اتخذ شبان عراقيون مواقع فيه للعب الكرة الطائرة في وسط النهر. وكانت المياه تصل بالكاد إلى مستوى خصورهم.

وتردّ وزارة الموارد المائية ذلك إلى "الرواسب الرملية"، فنظرا إلى أن هذه الرواسب لم تعد تنصرف باتجاه الجنوب بسبب نقص تدفّق المياه، تراكمت في قاع دجلة واختلطت بالمياه المبتذلة، ما أدى إلى صعوبة تدفق مياه النهر.

وحتى وقت قريب، كانت الحكومة ترسل آلات لشفط الرمال الراكدة في قاع النهر، لكن بسبب نقص الموارد، توقّفت غالبية المضخات عن العمل.

وتقول الناشطة البيئية هاجر هادي (28 عاما) إن هناك "قلة إدراك" لحجم المشكلة من جانب الحكومة والسكان، فيما يشعر العراقيون بـ "التغيرات المناخية التي تترجم بارتفاع درجات الحرارة وانخفاض منسوب المياه وتراجع هطول الأمطار والعواصف الترابية".

ودرست الشابة علوم الحياة في الجامعة وهي تعمل منذ العام 2015 مع منظمة "المناخ الأخضر" العراقية غير الحكومية خصوصا في الأهوار، لحماية البيئة ودعم السكان الأكثر ضعفا.

واضافت "هذه العواصف الترابية لا تأتي من العدم، بل من زيادة التصحر وقلة المساحات الخضراء. نقص المياه من الدول المجاورة يزيد الجفاف وبالتالي التصحر".

وفي رأس البيشة على حدود العراق وإيران والكويت، يتدفق شط العرب إلى الخليج. ويقول الملا عادل الراشد وهو مزارع نخيل يبلغ 65 عاما، "انظروا إلى أشجار النخيل هذه، إنها عطشى. تحتاج إلى الماء. هل أرويها بالكوب؟"، مضيفا "انتهى نهرا دجلة والفرات. لا توجد مياه عذبة، لم تعد هناك حياة. النهر مياه مالحة".

ومع انخفاض منسوب المياه العذبة، بدأت مياه البحر تغزو شط العرب. وتشير الأمم المتحدة والمزارعون بأصابع الاتهام إلى أثر تملّح المياه على التربة وانعكاساته على الزراعة والمحاصيل.

ويشتري الملا عادل الراشد المياه العذبة من صهاريج حتى يتمكن من الشرب هو وحيواناته.

ويقول إن الحيوانات البرية حتى تغامر بالذهاب إلى المنازل للحصول على مياه الشرب من السكان، مضيفا بحزن "حكومتي لا تزودني بالمياه. أريد ماء، أريد أن أعيش، أريد أن أزرع، كما فعل أجدادي الذين زرعوا أشجار النخيل واستفادوا من التمر".

ويعود نعيم حداد حافي القدمين بقاربه إلى منزله بعد يوم من الصيد في شط العرب. وعلى أطراف البصرة في أقصى جنوب العراق، تستقبله إحدى بناته الخمس على الضفة فيما يعرض كيسا مليئا بالسمك.

ويقول الرجل الأربعيني "نكرّس حياتنا للصيد بالتوارث"، مشيرا إلى أن ذلك هو مصدر رزقه الوحيد الذي يسمح له بإعالة أسرته المكونة من ثمانية أفراد. "لا راتب حكوميا ولا علاوات"، متابعا "في الصيف، لدينا مياه مالحة ومياه البحر ترتفع وتصل إلى هنا".

وبلغ مستوى الملوحة في شط العرب في شمال البصرة 6800 جزء في المليون، وفق ما أفادت السلطات المحلية مطلع أغسطس. من حيث المبدأ، لا تتجاوز نسبة الملوحة في المياه العذبة ألف جزء في المليون، وفقا لمعايير المعهد الأميركي للجيوفيزياء الذي يحدّد مستوى المياه "متوسطة الملوحة" بين ثلاثة و10 آلاف جزء في المليون.

وأدى ذلك إلى هجرة أنواع معينة من أسماك المياه العذبة التي تحظى بشعبية كبيرة لدى الصيادين من شط العرب، ما يتسبب في ظهور أنواع أخرى تعيش عادة في أعالي البحار. ويقول حداد "إذا نزلت المياه، انخفض الصيد وقلّت مصادر رزقنا".