Skip to main content

باريس تحتفي بالعبقري شامبليون الذي فك الرموز الهيروغليفية

جان فرنسوا شامبليون
AvaToday caption
جمع "معهد فرنسا" 88 مجلداً ملأها صاحب "القواعد المصرية" بالملاحظات والرسوم. مجلدات لا تقدّر بثمن، بقيت محفوظة في "مكتبة فرنسا الوطنية" إلى حد اليوم، ولم يُنشَر منها سوى القليل جداً
posted onMay 8, 2022
nocomment

في مناسبة حلول المئوية الثانية لفك الأبجدية الهيروغليفية، تنظّم "مكتبة فرنسا الوطنية" في باريس معرضاً فريداً لأبي علم الأثريات المصرية، الفرنسي جان فرنسوا شامبليون (1790 ــ 1832) الذي، بتحقيقه هذا الإنجاز، فتح للعالم أبواب لغة وأدب وحضارة كانت، حتى ذلك الحين، لغزاً منيعاً.

غاية المعرض، الذي يتألف من نحو 350 قطعة تتراوح بين مخطوطات ولفائف وأوراق بردي ورسوم وصور فوتوغرافية ومنحوتات ونواويس... تعريف زواره بـ "منهج شامبليون" وإعادة إحياء حضارة لم تفقد شيئاً من سحرها. يطمح أيضاً إلى كشف الإنسان الذي كانه هذا العبقري، بحماسته وفضوله ومزاجه وصفاته الأدبية، وإلى سرد ملحمة فكّه الرموز الهيروغليفية.

 1500 عام هو الزمن الذي يفصل بين آخر نقش هيروغليفي معروف وإنجاز شامبليون. زمن بقيت فيه أبجدية المصريين القدماء الصورية مجرّد رموز كتيمة، باباً مغلقاً على أسرار دفينة. وتوجّب كل نبوغ هذا العالِم وحدسه وعمله الموسوعي لفتح هذا الباب وكشف عظمة تلك الحضارة التي تقف خلفه.

لدى وفاة شامبليون المبكرة، جمع "معهد فرنسا" 88 مجلداً ملأها صاحب "القواعد المصرية" بالملاحظات والرسوم. مجلدات لا تقدّر بثمن، بقيت محفوظة في "مكتبة فرنسا الوطنية" إلى حد اليوم، ولم يُنشَر منها سوى القليل جداً. من هنا أهمية تقديمها أخيراً في المعرض الحالي الذي تستقبلنا في مدخله منحوتة لتحوت برأس أبو منجل، إله الحكمة والكتابة لدى المصريين، وأيضاً الساحر الذي يدرك بأي إيقاع صوتي يتوجّب إلقاء التعويذات السحرية.

بعد ذلك، نلج صالة أولى بيضاء تمنح بثرائها وكثافة محتوياتها فكرة عمّا ينتظرنا داخل المعرض. صالة يمكننا فيها تأمل رسم مجهول لجزء من القاهرة خلال القرن الثامن عشر، تبدو هذه المدينة فيه محاطة بالرمال وبعيدة كل البعد عن المدينة الكبرى المكتظة بالسكان التي باتتها اليوم. نشاهد أيضاً رسوماً لبلزاك، مؤلف "الأب غوريو"، والمهندس والرسام شارل لوي الذي أنجز رسم مناظر مصرية كثيرة على شكل بطاقات بريدية.

ومقابل هذه الأعمال، يحضر البورتريه الشهير لشامبليون الذي أنجزه الرسام ليون كونييه، والتواريخ الرئيسية لحياته، إلى جانب خارطة لمصر تعود إلى عام 1898 الذي شكّل نقطة الذروة لقرن من الدراسات المصرية التي انطلقت مع حملة بونابرت إلى مصر عام 1798. حملة علمية بقدر ما كانت عسكرية، أثمرت 23 مجلداً ضخماً نُشرت عام 1809 بعنوان "وصف مصر" وتعطينا، بحضورها داخل هذه الصالة، فكرة وافية عن الدراسات العلمية التي قادها العلماء الذين رافقوا نابليون إلى بلاد الفراعنة.

نشاهد أيضاً في هذه الصالة نُسَخاً من مختلف الكتب التي وضعها شامبليون، ورسالته الشهيرة إلى سكرتير "أكاديمية الآثار والآداب" التي أعلن فيها فك الكتابة المصرية: "كتابة صورية ورمزية وصوتية في الوقت نفسه"، كما كتب لاحقاً في كتابه "ملخّص النظام الهيروغليفي" (1824).

في الصالة الثانية، نعبر من اللون الأبيض إلى البرتقالي، ونكتشف مراحل فكّ شامبليون هذه الكتابة. وفي هذا السياق، زُيّنت بالرموز الهيروغليفية جدران هذه الصالة التي تحتل فضاءها مخطوطات ومنشورات قديمة، بعضها عربي، وقطع تعكس ثقافة مشوبة برمزية عالية، وتتميز بصورية شُحنت على مر القرون بدلالات سحرية. وفعلاً، منذ العصور القديمة، أعيدت قراءة حضارة مصر القديمة من قبل مدارس صوفية مختلفة وكذلك التقليد اليوناني الذي صبغ الثقافة الرومانية. فمن الفيلسوف الإغريقي هورابولون، وصولاً إلى رمز "الثعبان الذي يلتهم ذيله" (Ouroboros)، مروراً بشخصيتي "تحوت هرمس" و"هرمس المثلث العظمة" الأسطوريتين، ومراجع أخرى كثيرة، يتجلى في هذه الصالة عالمٌ بكامله مستوحى من التصوف الشرقي ضمن توفيق بين المعتقدات انبثق من تداخل الحضارات القديمة الكبرى.

ولكن من عدم فهم الكتابة المصرية، انتشر سوء تفسير آثارها بشكل واسع. ووجب انتظار فك رموزها بفضل جهد شامبليون لإعادة إرساء ديانة الفراعنة داخل حقيقتها والتعرّف إلى آلهتها الغزيرة (77) التي مُثِّلت بأجساد بشرية ورؤوس حيوانية، ورُصدت صالة خاصة لها داخل المعرض.

جان فرنسوا شامبليون

وتجدر الإشارة هنا إلى أن القائمين على هذا المعرض اعتمدوا فيه مقاربة تكتيكية وتربوية لجعل زواره يفهمون كيف تُمكِن إعادة اكتشاف لغة مفقودة عن طريق اللغات القريبة منها، كما يمكن أن نعثر على اللغة اللاتينية انطلاقاً من الفرنسية أو الإيطالية. وبالنسبة إلى اللغة الهيروغليفية الصورية، فإن اللغات الوريثة الأكثر ارتباطاً بها هي الهيراطيقية، التي ظهرت في الألفية الثانية قبل الميلاد، والديموطيقية، في الألفية الأولى، وأخيراً القبطية التي ما زالت مستخدمة إلى حد اليوم في مصر، وتعلّمها شامبليون بحماسة كبيرة.

وفي هذا السياق، تحضر في المعرض نسخة مطابقة الأصل من "حجر الرشيد" الذي اكتشفه الفرنسيون عام 1799، وهو نصب يحمل مرسوماً ملكياً من القرن الثاني قبل الميلاد، مكتوباً بلغات ثلاث كانت حاسمة لفك الهيروغليفية. تحضر أيضاً الوجوه التاريخية التي قادت شامبليون إلى إنجازه، كالكاهن اليسوعي المستشرق أتانازيوس كيرشر، في القرن السابع عشر، الذي كان أول من لاحظ أن القبطية هي وريثة الهيروغليفية الأخيرة. نشاهد أخيراً واحدة من مسلات كليوباترا وبعض خراطيش رمسيس الثاني.

ولأنه كان يتعذر على شامبليون أن يصل إلى ما وصل إليه من دون مساعدة ودعم شقيقه البكر جاك جوزيف، الذي اكتشف باكراً عبقرية شقيقه الصغير، يحضر هذا الأخير في جميع مراحل المعرض. اكتشافٌ سهلٌ حين نعلم أن شامبليون تعلم وحده، في سن الثانية عشرة، اليونانية واللاتينية والعبرية والعربية والآرامية، ثم انتُخب عضواً في "جمعية غرونوبل للعلوم والفنون" في سن السادسة عشرة، قبل أن يفك الهيروغليفية في سن الثانية والثلاثين.

المعرض هو أيضاً فرصة لاكتشاف أسفار هذا العبقري العديدة إلى مدينة تورينو الإيطالية حيث أُسِّس المتحف الأوروبي الأول لمصر القديمة، ثم رحلة حياته إلى مصر: "الكرنك. هنا بدت لي روعة الحضارة الفرعونية، أعظم ما تخيّله وحققه البشر... نحن، في أوروبا، لسنا سوى أقزام"، كتب في رسالة لأخيه. رحلة عاد منها بثلاثة آلاف رسم نشاهد عدداً كبيراً منها في إحدى صالات المعرض مع جواز سفره وبوصلته ونظاراته الشمسية وغليوناً تلقاه هدية، قبل أن نلج صالة دائرية تُعرض فيها سلسلة من البرديات وناووس فرعوني ودائرة أبراج دندرة الشهيرة التي نهبها فرنسيان من معبد دندرة القريب من الأقصر.

يبقى أن نشير إلى أن شامبليون، مثل كل الروّاد والرؤيويين، عانى كثيراً قبل أن يتم قبوله داخل المحيط الأكاديمي، نظراً إلى جرأته وحماسته وعدم تحصيله شهادات جامعية عليا. ومع ذلك، تمكّن من أن يكون أول مدير لعلم المصريات في متحف اللوفر، وأول مؤرّخ للفن الفرعوني، وأيضاً أستاذاً جامعياً. وبعد وفاته، شكّك بعض العلماء بنجاحه في فك الهيروغليفية، قبل أن تصدر كتبه التالية: "القواعد المصرية"، "القاموس المصري"، "صروح مصر والنوبة"، وتبدّد هذا الشك.

في "نظرية المنهج"، كتب بالزاك، الروائي هذه المرة: "كرّس شامبليون حياته لقراءة الهيروغليفية". شهادة صائبة وقيّمة، لكنها تُهمل ما هو أبرز في مسيرته، أي دوره الرائد في إنارة حضارة تمتد على مدى ثلاثة آلاف سنة، وإيصال صوتها ، وتأسيسه لمنهج عمل ألهم العديد من العلماء بعده لفك رموز أخرى.