تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عودة فلسفة نيتشه في مقاربة فرنسية مختلفة

نيتشه
AvaToday caption
يعرف الدارسون لفكر فريديريك نيتشه أن الفيلسوف عمل لفترة طويلة على إعداد كتاب لم ينشره، اعتزم تسميته "إرادة القوة" أو "الاقتدار"
posted onDecember 12, 2023
noتعليق

صدر حديثاً في باريس المجلد الثالث والأخير المخصص لكتابات الفيلسوف والشاعر الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) في سلسلة "لا بلياد"، وهي أرقى سلسلة كتب تصدرها دار "غاليمار" الفرنسية، تضم روائع النصوص الأدبية والفلسفية الكلاسيكية منها والمعاصرة. فكل أديب أو فيلسوف تنشر أعماله في هذه السلسلة يحاط بهالة من الإعجاب، لكن هذه الهالة لا تعود لفخامة كتب السلسلة وطريقة صناعتها المتقنة، ولوريقات صفحاتها المذهبة التي تكاد لا تكون موازية لرقتها وحسب، بل لأسماء العمالقة من الأدباء والشعراء والفلاسفة الذين تنشر أعمالهم، بعد أن قضوا العمر في وضع نصوص إبداعية أثرت في تاريخ الأدب والفلسفة، فدخلوا بذلك الخلود من بابه الواسع.

خلافاً للجزأين الأولين المخصصين في المجموعة لمؤلفات نيتشه، لم يحمل الجزء الثالث عنوان "أعمال"، بل "هكذا تكلم زرادشت وكتابات أخرى"، إذ سلط الضوء على ترجمة فرنسية جديدة تناولت الكتاب الأشهر لفيلسوف "العود الأبدي. في هذا الجزء الثالث كما في الجزأين السابقين، انطلق القائمون على هذا المشروع من الطبعة العلمية الأولى لمؤلفات نيتشه التي حققها العالمان الإيطاليان جورجيو كولي ومازينو مونتيناري، والتي أصبحت على مر السنين مرجعاً لدراسة فريديريك نيتشه. وقد تولت دار غاليمار ترجمة هذه الطبعة العلمية بأكملها ونشرتها ضمن ما يعرف ب"السلسلة الرمادية". تجمع هذه الطبعة بين ثلاثة أنواع من النصوص: تلك التي نشرها نيتشه بنفسه، ثم تلك التي كتبها خلال السنة الأخيرة من حياته، أي في سنة 1888 قبل انهياره ودخوله مصحة الأمراض العقلية، وأخيراً النصوص التي كان قد أعدها للنشر.  لم تكن هناك من مشكلة في نشر مراسلات نيتشه، التي حظيت بترجمة جديدة تحت إشراف جان لاكوست.

بدأت المشكلات الكبيرة تواجه القائمين على مشروع "لا بلياد"، حين وقعوا على كمية هائلة من الملاحظات والتأملات والمسودات خطها الفيلسوف على مفكرات ودفاتر غير منشورة، رافقت مجموع النصوص التي أعدها للنشر، من دون أي ترتيب آخر، سوى ترتيب التماعها في ذهنه.

كانت هذه الملاحظات كبيرة جداً، بحيث أمكن مقارنة حجمها بحجم كل الكتب التي نشرها نيتشه في حياته. كان القرار المنطقي أن يتم اختيار الملاحظات والتأملات المتسقة والأكثر قابلية للقراءة، لكن مصير الملاحظات والتأملات والتعليقات التي أعرض الناشر عن اعتمادها ظل يؤرق بال كثر، إذ غالباً ما اعتقد الباحثون أن أعمال نيتشه المنشورة تمثل ما قرر نيتشه أنه الأنسب للنشر. أما ما احتفظ به لنفسه، أي هذه الدفاتر التي يحيطها كثير من الجدل والتي تتعارض أحياناً مع بعض الآراء التي سبق لنيتشه نشرها، هي بالفعل ما يعبر عن آرائه الأكثر أصالة.

يعرف الدارسون لفكر فريديريك نيتشه أن الفيلسوف عمل لفترة طويلة على إعداد كتاب لم ينشره، اعتزم تسميته "إرادة القوة" أو "الاقتدار". غير أنه استعان في وضعه بعديد من الأفكار الواردة في متن الدفاتر، التي بثها أيضاً في كتابيه الصغيرين "المسيح الدجال" و"غروب الأوثان". فكان السؤال الملح عن مغزى استخدام هذه الدفاتر مجدداً وعن مغزى نشر ما ورد فيها كاملاً.

يروي القيمون على العمل كذلك أن الأمور سرعان ما تعقدت، بسبب من خاصية الكتابة النيتشوية واستخدامها المفرط للعبارات الاستفزازية والعنيفة أحياناً، لا سيما أن نيتشه كان متخصصاً بفقه اللغات اليونانية واللاتينية وعالماً بالآداب القديمة. ففي حين عبر الفيلسوف مراراً وتكراراً عن كراهيته للبانجرمانية ومعاداة السامية، فإنه ليس من الصعب الوقوع في دفاتره على صياغات كتابية، إن تم تنسيقها بشكل معين، تظهره كما لو أنه كان بالفعل معادياً للسامية وقريباً من الأيديولوجية النازية. أمام هذه الأخطار كان الحل المنطقي الوحيد هو الذي اعتمده وأوصى به في ما مضى كل من كولي ومونتيناري، ونشر مفكرات نيتشه ودفاتره بأكملها، بحسب ترتيب ظهورها الزمني، لذا كان هذا الإصدار هائلاً ومذهلاً، إذ شكل كنزاً لكل الدارسين والباحثين في فكر نيتشه. وقد تبنى القيمون عليه خيار تغذية تعليقاتهم التوضيحية في هوامش الكتب والنصوص المختلفة، باقتباسات استلت من متن هذه الدفاتر التي بإمكانها أن توضح بعض الأفكار الواردة في الكتب المنشورة. استعان المحررون، على سبيل المثال لا الحصر، بمجموعة من التعليقات والملاحظات كان نيتشه قد كتبها لـلو أندرياس سالومي توضيحاً لفكرته عن العود الأبدي، وقد وردت العبارة في مخطط كتابيه "إرادة القوة" و"هوذا الإنسان" وفي غيرهما من الكتب.

غير أنه من المؤسف اعتماد الترجمة الفرنسية نفسها لهذه الأفكار والتعليقات كما صدرت في المجموعة الرمادية منذ عام 1975، علماً أنها لم تكن سيئة، لكنها قديمة وتعود بشكل رئيس إلى نصف قرن تقريباً، ولو استفادت في بعض الأحيان من إعادة نظر ومراجعة. أما رائعة نيتشه "هكذا تكلم زرادشت"، التي نشرها عام 1883 فقد حظيت بترجمة جديدة تماماً، على رغم أن موريس دو غاندياك الذي تولى مهمة ترجمتها لأول مرة إلى اللغة الفرنسية كان عالماً متبحراً في الفلسفة اليونانية القديمة ونهضة العصور الوسطى وكتابات ديونيسيوس الأريوباجي، إلا أنه لم يكن شاعراً عالماً بفكر القرن الـ19.

لحظت الترجمة الجديدة للكتاب خصوصيات اللغتين الألمانية والفرنسية وجمالية كتابة شذرات نيتشه الشعرية في نص مثل "زرادشت" يقدمه الفيلسوف نفسه كنص مؤسس لحكمة شاعرية ودينية، واصفاً إياه بإنجيله الشخصي. والواقع أن نيتشه في "زرادشت" كان شاعراً أكثر منه فيلسوفاً، إذ قال عنه الأديب الألماني توماس مان إنه "أفضل من كتب باللغة الألمانية"، بعد أن اعترف نيتشه أنه أوصل اللغة الألمانية في هذا الكتاب إلى ذروة كمالها.

لا يسعنا في هذا المقال إلا أن نشيد بحساسية المترجمين الشاعرية، عنيت مارك دو لوناي ودوريان آستور. فليس كافياً إتقان اللغة الألمانية لكي تكون ترجمة كتب نيتشه جيدة، بل من الجيد أيضاً أن يكون لدى المترجم روح شاعرية وعمق فكري واستيعاب لفكر الفيلسوف الألماني الذي هدم بمطرقته العمارات النظرية والماورائيات، وتفكر في ابتكار قيم أخلاقية تتوافق مع نضالات الحياة الإنسانية وتطلعها نحو الإنسان الأعلى، الذي يملك وحده بحسبه القدرة على احتمال فكرة العود الأبدي، التي أعلنها في كتابه "العلم الجذل".

في النهاية إن قراءة نصوص نيتشه وأعماله الكاملة في سلسلة "لا بلياد" هي بالتأكيد متعة حقيقية، إن لناحية ترجمتها الفرنسية الجديدة التي أزالت بعض الصيغ اللغوية القديمة وما رافقها من التباسات وتحريفات طاولت مصطلحاته وأفكاره الأساسية إن نحن قارناها بالترجمات الأخرى التي فصلها بعض المترجمين أحياناً على مقاس معارفهم، أو لناحية إدراجها في سلسلة الخالدين من دون إغفال أي جملة أو فكرة خطها قلم هذا العبقري.

 قدمت هذه الفلسفة معايير ثقافية جديدة من جهة ثوريتها وشاعريتها وجمال لغتها ودقة معانيها المتأصلة في الفيلولوجيا الكلاسيكية، ومن جهة تأثرها بالموسيقى، وقراءة كاتبها لشوبنهاور والمسرحيين والفلاسفة اليونانيين وإحباطاته من الثقافة الألمانية في أيامه.

 جاهد نيتشه في حياته لطبع مؤلفاته، ولم يساوره الشك إطلاقاً أن كتبه ستترك أثراً ثقافياً كبيراً وأنها ستلعب دوراً في دفع عجلة تسريح الطاقات الديونيزية الكامنة في الإنسان التي أعلن زرادشت إطلاقها، ناظراً إليها كمنقذ محتمل من عدمية الثقافة الأوروبية في القرن الـ19، رافضاً فكرة الثوابت الكونية قائلاً إن ما ندعوه "حقيقة"، هو في الواقع "كم من الاستعارات والكنايات والتشبيهات والأوهام". وعلى هذا النحو يكون كتابه المسمى "هكذا تكلم زرادشت"، الذي وصفه مؤلفه بأنه "كتاب للجميع وليس لأحد"، والذي عده من ضمن أهم أعماله، قد أظهر بجلاء فكره، وهو إلى ذلك بيان في التغلب على الذات ومصدر إلهام لكثر.

في "زرادشت" وظف نيتشه الحيوان والأرض والهواء والنار والماء والنباتات والكواكب السماوية لخدمة بيان الارتقاء الروحي لهذا النبي المتأمل صاحب الإرادة القوية والعقل الراجح والصوت الضاحك الراقص، تاركاً دلالات تأملاته الفلسفية مفتوحة على باب التأويلات التي لا تحد ولا تحصر.

(فريدريش نيتشه: هكذا تكلم زرادشت وكتابات أخرى. الجزء الثالث. أشرف على نشرها مارك دو لوناي بالتعاون مع دوريان أستور، باريس، غاليمار، مجموعة "لا بلياد")