تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

تمارين لاقتناص الأفكار

طاولة الكتابة لألكسندر دوماس
AvaToday caption
يقال عن الفيلسوف الفرنسي فولتير إنه "كان لا يستطيع الكتابة إلا إذا جمع عدداً كبيراً من أقلام الرصاص أمامه، وبعد أن ينتهي يكسر تلك الأقلام ويلفها بالورقة التي كتب عليها، ثم يضعها تحت وسادته وينام"
posted onDecember 10, 2023
noتعليق

اندهش كثيرون في المغرب من تصريحات عبدالحق الزروالي، أحد رواد المسرح الفردي في الوطن العربي، قبل أيام خلت باعترافه أنه "لا يستحم إلا قليلاً لأن الماء بالنسبة إليه شيء مقدس"، لكن آخرين زعموا أن تصريحاته الغريبة قد تكون أحد طقوس المبدعين من كتاب وأدباء وموسيقيين وغيرهم.

وبعيداً من ذلك، فقد اشتهر مبدعون عبر أرجاء العالم بممارسة طقوس تبدو غريبة للآخرين، غير أنها بالنسبة إلى هؤلاء المبدعين المشاهير تعتبر سلوكيات لازمة لإبداعاتهم، حيث لا يمكنهم الكتابة أو التأليف أو الغناء من دون "الخضوع لهذه الطقوس".

بالمقابل يرى البعض أن الحديث عن طقوس غريبة تلازم المبدعين لا يقدم ولا يؤخر شيئاً في العملية الإبداعية، التي تعتبر في نهاية المطاف فعلاً جدياً يتطلب من الكاتب التفاني وتحقيق أقصى شروط الجدية.

الروائي المغربي المعروف الراحل محمد شكري كان يتمسك بطقوس معينة تتسم بالسكون والاستغراق في التأمل داخل أحد مطاعم مدينة طنجة يدعى "الخبز الحافي"، وهو الاسم الذي اتخذه عنواناً لروايته الأشهر عبر مسيرته.

أما الأديب المصري الراحل يوسف إدريس فقد كان لا يبدع قصصه إلا إذا جلس وحيداً وبعيداً حتى من أقرب المقربين إليه، وكانت زوجته تسافر إلى بيت والدها إلى أن ينهي كتاباته، ويقال إن الوضع انقلب بعد ذلك ولم يعد يستطيع الكتابة إلا بحضورها.

الكاتب المصري علاء الأسواني طقسه الرئيس عند الكتابة أن يضع أربعة فناجين من القهوة أمامه على مكتبه لينغمس انغماسا كلياً في الكتابة ساعات طويلة من دون حراك لا حتى يقوم من كرسيه إلى أن تختمر الفكرة ويخط كتابته على الورق.

وكان إبراهيم أصلان أحد أبرز كتاب جيل ستينيات القرن الماضي في مصر، يختار طقساً غريباً قبل أن ينطلق في تسويد أوراقه، بل إنه أبدع روايته الشهيرة "مالك الحزين" داخل أحد المقاهي في حي إمبابة بالعاصمة القاهرة، حيث الضجيج لا يطاق، لكنه كان مستأنساً بهذه الأجواء التي ساعدته في إبداع روايته.

أما الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد فلا يكتب بدوره إلا في فصل الشتاء وفي أمكنة دافئة شرط أن تكون الإضاءة مبهرة، بينما كان الأديب المصري الراحل خيري شلبي لا يكتب حرفاً إلا إذا عاش حالاً من الاكتئاب والسخط.

يقال إن شلبي المتوفى في 2011 اضطر إلى الإقامة في مقبرة من القرن الـ18، وفيها أنتج بعض رواياته المعروفة مثل "ملحمة الشطار"، غير أنه بمجرد الانتهاء من عمله الإبداعي يعود إلى طبيعته الودودة مع أسرته ومعارفه.

يقول الروائي المغربي مصطفى لغتيري، إن هناك طقوساً لا يمكن لعدد من المبدعين الاستغناء عنها، ومن دونها يعجزون عن الكتابة والتأليف"، مورداً أن كتاباً لا يجدون حرجاً في الإعلان عن تلك الطقوس، بينما آخرون يعتبرونه أمراً خاصاً بهم".

ويعزو لغتيري هذه الطقوس إلى أحداث معينة قد يكون مر بها المبدع والأديب أو الفنان، ولا يمكن تبريرها بأية حال من الأحوال، غير أنها تظل أموراً شخصية تمنح الجمهور فرصة للتعرف إلى بعض جوانب الحياة غير المعروفة لدى المبدع.

واستدل لغتيري بأمثلة أخرى لهذه الطقوس، منها ما كان يمارسه الشاعر المعروف نزار قباني، حيث كان يفضل النوم على بطنه خلال عملية الكتابة، ولا‌ يكتب إلا‌ عندما يكون في منتهى الأناقة، بينما كان الراحل مصطفى العقاد لا يكتب إلا إذا كان مرتدياً منامة (بيجامة) داخل بيته.

واستحضر لغتيري حال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، أحد أهم الكتاب العالميين في القرن الـ20، حيث كان يحرص على الاستحمام في حوض مياه قبل الاستغراق في التأمل، بينما الروائية أغاتا كريستي كانت تبحث عن صياغة قصصها المثيرة داخل الحمام وليس في أي مكان آخر.

ويقال عن الفيلسوف الفرنسي فولتير إنه "كان لا يستطيع الكتابة إلا إذا جمع عدداً كبيراً من أقلام الرصاص أمامه، وبعد أن ينتهي يكسر تلك الأقلام ويلفها بالورقة التي كتب عليها، ثم يضعها تحت وسادته وينام".

في المقابل يرى الشاعر والروائي والإعلامي المغربي ياسين عدنان، أن "الطقوس الغريبة للمبدعين تندرج اليوم في باب الطرائف التي يجري التندر بها ولا تتجاوز هذا السياق، باعتبار أن الإبداع بشكل عام وضمنه الكتابة الأدبية أمر جدي يحتاج إلى خبرة وتجربة ومراس".

واستطرد عدنان أن الإبداع يحتاج مجهوداً حقيقياً بدءاً بالتحضير والتهيؤ مروراً بالجلوس أمام الكمبيوتر، الذي صار أغلب الكتاب في العالم يستعملونه للكتابة بدل القلم والورقة، وانتهاء بالتحرير والتنقيح".

وأردف الشاعر، "شخصياً أفضل التعامل مع عملية الإبداع بواقعية وحملها على محمل الجد، وبهذا المعنى لا أعطي قيمة كبيرة لأخبار المنوعات الطريفة التي تتحدث عن طقوس الكتابة والإبداع الغريبة لدى هذا أو ذاك".

وتابع عدنان أن "الكتابة والإبداع بالنسبة إليه أمران جديان، والتفاني فيهما يفرض على من يمارسهما أقصى شروط الجدية"، متذكراً الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي كان يرتدي بذلته ويجلس إلى مكتبه يومياً ليراود مخيلته عن استعارات جديدة، وحتى لو لم يكتب فإنه كان يجلس إلى مكتبه ويواجه الورقة البيضاء بقلمه الشخصي في مشهد جدير بالتقدير".

وخلص صاحب رواية "هوت ماروك" وديوان "ناي الأندلسي" إلى أن "الكتابة أمر جدي تحتاج مكابدة ومجاهدة، أما الطقوس الغريبة للأدباء والمبدعين فهي من باب الطرائف واللطائف، ولا تؤثر في العمق على الإبداع من قريب ولا من بعيد".