تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

دافينشي عبقري أحدث ثورة في الفنون والعلوم

دافينشي
AvaToday caption
بحث دافينشي عن قوانين هذه اللغة عبر تأمله في الجسم البشري والطبيعة. وفي هذا السياق، ساهم في كتاب "النسبة الإلهية" (1497) بنصّ تناول فيه النسبة الذهبية كدليل على تناغُم روابط العالم
posted onOctober 25, 2023
noتعليق

حين يُذكر اسم ليوناردو دافينشي (1492 ــ 1519)، تحضر فوراً إلى الأذهان روائعه الفنية، وفي مقدمها "لا جوكوند" أو "الموناليزا" التي تُعتبر أشهر لوحة في تاريخ الفن. لكن عبقرية هذا الإنسان لم تنحصر في ميدان فن الرسم، بل طاولت ميادين فنية وعلمية عديدة، كالهندسة المدنية والعسكرية، تشريح الأجساد، رسم الخرائط والطيران. هذا ما يتجلى في المعرض الضخم الذي ينظّمه حالياً "منتدى العلوم" في "قصر كلو دوسيه"، في مدينة فيلنوف داسك الفرنسية، تحت عنوان "ليوناردو دافينشي عند تقاطع الفنون والعلوم"، ويهدف إلى تسليط الضوء على ذلك الجانب الأقل شهرة من إنجازات هذا العملاق، من خلال مختارات واسعة من رسومه ولوحاته وتصاميمه وكتاباته. أعمال إن دلّت على شيء، فعلى نبوغ لم تعرف البشرية مثله على مرّ تاريخها.

نموذج مثالي للإنسان النهضوي المتنوّر، لم يكتفِ دافينشي بإدهاش معاصريه بحجم موارده الفكرية وبلوغه، بفضل ذلك، حصيلة كاملة بين الفنون والعلوم، وسّعت حدود معرفتنا بشكل لا سابق له وكشفت جوانب من عالمنا كانت لا تزال خفية، بل سحرهم أيضاً بفتنة شخصيته. وبالتالي، يشكّل استحضار نشاطاته الفنية والعلمية والتقنية، والتأمل فيها، كما يفعل معرضه الحالي، فرصة فريدة لاكتشاف تجليات حدسه الباهرة، حسّه الإبداعي النادر ورؤيته البصيرة لعالمنا.

تنظيم المعرض يتبع مساراً تعليمياً تتجاور داخله رسوم دافينشي ولوحاته مع تصاميمه وابتكاراته وكتاباته الغزيرة، وفقاً لعرض حيّ وثلاثي الأبعاد يسمح بالغوص في الموضوعات الرئيسية لأبحاثه الفنية والعلمية، قبل أن يتوقف عند إرثه الذي يبيّن كم أن هذا العبقري لا يزال راهناً وحاضراً برؤيته التي تسبق زمنه بخمسة قرون، ومرجعاً ينير مستقبلنا، بشمولية عمله الفذ ومتعدد الميادين.

الصالة الأولى من المعرض تجمع 19 لوحة شهيرة لدافينشي الذي نظر إلى الرسم باعتباره "أمراً ذهنياً"، والفن الأسمى من بين الفنون. أعمال تتجلى فيها التقنيات التصويرية التي ابتكرها، وفي مقدمتها تثويره للمنظور داخل اللوحة برسمه وفقاً للأبعاد الثلاثة، مسجّلاً بذلك قطيعة حاسمة مع فن الرسم في العصور الوسطى. ثورة تتجلى في لوحته "العشاء الأخير" التي قدّم فيها للمرة الأولى نموذجاً عن الفضاء ثلاثي الأبعاد في الرسم، وأيضاً عن إمكان تمثيل الحركة وزمنية السرد رسماً. مذّاك، تحول هذا العمل إلى أعظم تحفة في فن الرسم الغربي، لكن ليس فقط بفضل الثورة المذكورة، بل أيضاً بفضل معالجة صاحبه المتقنة فيه للظل والضوء، وتنفيذه إياه بتقنية " sfumato" التي ابتكرها، وتقوم على طمس نطاق الكائنات والأشياء المرسومة، الأمر الذي يمدّها بذلك الجانب الملغّز الذي يفتن المتأمل فيها.

في الصالة الثانية، نعرف أن تطوّر العلوم والتقنيات في إيطاليا آنذاك يقف خلّف تنافس نبلائها على تشييد مدنهم وتجميلها. وبما أن دافينشي وضع نفسه في خدمة الدوق لودوفيك سفورزا في ميلانو، صمّم له مشروع مدينة وظيفية تأخذ فيه أحياؤها وصروحها شكل كائن حيّ. ونظراً إلى قلقه من الوضع الصحي للمدن، خصوصاً بعدما ضرب الطاعون ميلانو من عام 1484 إلى عام 1490، تخيّل مدينة نظيفة وعملية تنفصل فيها بوضوح وعمودياً حركة الأشخاص والبضائع والنفايات. في الأعلى، محلات التجار، القصور المقنطرة والحدائق المخصصة للأثرياء، وفي الأسفل، الأنشطة الصناعية والطرقات والقنوات والمجارير وأنظمة تصريف مياه الأمطار والصرف الصحي.

وجه امرأة

وخصصّت الصالة الثالثة لنبوغ دافينشي المعماري وأبحاثه في علميّ الرياضيات والهندسة. نبوغ تجلى بفضل لوكاس باتشيولي الذي عرّفه إلى إقليدس والرياضيات النظرية، وأيضاً بفضل انكبابه على تمارين حسابية وهندسية قولبت نظرته إلى العالم. فإثر إقناع باتشيولي له بأن الله كتب العالم بلغة رياضية، بحث دافينشي عن قوانين هذه اللغة عبر تأمله في الجسم البشري والطبيعة. وفي هذا السياق، ساهم في كتاب "النسبة الإلهية" (1497) بنصّ تناول فيه النسبة الذهبية كدليل على تناغُم روابط العالم. ولأنه كان مفتوناً أيضاً بهندسة الفضاء والبعد الثالث، رسم أشكالاً هندسية متعددة الوجوه،، مستوحاة من المجسمات الأفلاطونية الخمس: المكعّب، ذو الإثني عشر وجهاً، ذو العشرين وجهاً، ثماني الأوجه المنتظم، والهرم المنتظم.

وبفضل هذه المعرفة الرياضية، لمع في الهندسة المدنية، إثر طلبيات تلقّاها من آل سفورزا والبابا ميديتشي وشارل دامبرواز، فوضع تصاميم قصور وفيلات وحدائق وإسطبلات، وأنجز رسوماً يتراوح موضوعها من أبسط العناصر الهندسية (أعمدة، نوافذ، سلالم حلزونية أو ذات دورات مزدوجة أو رباعية، مواقد، نوافير...) إلى مدينة بكاملها. لمع أيضاً في الهندسة العسكرية باقتراحه تصاميم مدافع عملاقة لترسانة ميلانو، وأخرى لحصون دفاعية من شأنها صد قذائف العدو المعدنية الكروية، وبتخيّله قلاعاً زاويّة ومنخفضة، على شكل نجمة، وأيضاً ما بات يُعرف بـ "التحصين الليوناردي" الذي يرتكز على نقاط تحكّم عالية. لمع أخيراً في الهندسة الدينية، كما تشهد على ذلك دفاتره التي تحتوي رسومات لكنائس ذات تصميم متقاطع على شكل صليب، تعلوها قباب عديدة.

عاماً من حياته، ووضع أبحاثاً فيه تُعدّ من بين الأكثر استشرافاً. هكذا تحوّل حلم إيكاروس، القديم قدم العالم، إلى واقع على يد هذا الفنان الذي قاد تأملات باهرة في تحليق الطيور، جمعها عام 1505 في كتاب بعنوان "مخطوط تحليق الطيور"، يتألف من 160 صفحة ويضم أكثر من 500 رسم. وبفضل هذا المؤلَّف وعدد من دفاتره، نعرف أن دراسته لموضوع الدفع الهوائي أسست لعلم الـ "أيروديناميك"، وأنه صمم آلات طائرة بأجنحة مفصلية تتحرّك فقط بالقوة الميكانيكية للذراعين والساقين، وأخرى بأجنحة ثابتة للطيران الشراعي، كما صمم آلات ذات إقلاع عامودي أو أفقي، وأنظمة هبوط، ومظلات، ومنظار للرطوبة، وأجهزة لقياس شدة الريح. دراسات وتصاميم بقيت مهملة على مدى خمسة قرون، قبل أن يكتشفها روّاد علم الطيران في مطلع القرن العشرين فتشكّل لهم خير مرجع لبلوغ مرماهم.

في الصالة الخامسة، نرى كيف أن دافينشي، بعبوره في دراساته وتأملاته من ميدان علمي إلى آخر، تمكن من إجراء تقاطعات تقنية مدهشة ومن استثمار التقنيات المكتشفة في مختلف الميادين التي قاربها. هكذا ابتكر تقنية التحريك بواسطة الكرى، التي من شأنها تقليص الاحتكاك وتحسين ظروف نقل الأحمال الثقيلة. نرى أيضاً مختلف الاختراعات الصناعية التي تحمل توقيعه، كالجسر الدوّار، الباخرة التي تندفع بدواليب مثبّتة في مؤخرتها، المدفع البخاري، الدبابة، وحتى الغواصة!

وتتوقف الصالة السادسة عند مسألة تكريس دافينشي العقود الثلاثة الأخيرة من حياته لعلم التشريح، بغية فهم ميكانيكية الجسم البشري وحركته وأدائه العضوي، ومحاولة سبر سرّ الحياة. وفي هذا السياق، شرّح أكثر من ثلاثين جثة لرجال ونساء من جميع الأعمار، وجثثاً كثيرة لحيوانات مختلفة (خيول، دببة، أبقار، خنازير، طيور...)، ورسم بواقعية شديدة اكتشافاته في هذا المجال. نشاط قدّم لعلوم الحياة ابتكارَين أساسيين: دقة فيزيولوجية مدهشة في وصف نتائج التشريح، ورسوماً لا تضاهى سواء في جمالياتها أو في واقعيتها وتفصيلها العلمي الدقيق لبنية جسم الإنسان. وحين نعرف أن هذه الدراسات طبعت بقوة عمله الفني وثماره، لا يسعنا عدم رؤية جانب احتفائي فيها بالجمال الداخلي.

وفي خاتمة المعرض، نحظى بفرصة مشاهدة مختارات من دفاتر دافينشي التي يرتفع عدد صفحاتها إلى سبعة آلاف، من أصل 13 ألف صفحة مكتوبة تركها خلفه. وثائق نادرة القيمة خطّها هذا العملاق باللغة التوسكانية، لكن من اليمين إلى اليسار، بحيث تتعذر قراءتها إلا في المرآة، وتتضمن خلاصة تأملاته واختباراته في جميع ميادين المعرفة، إلى جانب رسوم نجهل معظمها. دفاتر لم تكشف بعد كل أسرارها، على رغم خضوعها لأبحاث علمية وفنية غزيرة منذ مطلع القرن الماضي.