تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مخرجين "شياطين" خرجوا عن بيت الطاعة

من فيلم "لا يوجد شيطان"
AvaToday caption
في الاستبعاد الذي كان يعاني منه، وجد بناهي الذريعة المناسبة التي تتيح له الاقتراب من الرأي العام الإيراني والتقاط الأفكار والهواجس والتطلّعات التي تؤججه
posted onJuly 14, 2022
noتعليق

اعتقلت السلطات الإيرانية سينمائيين إيرانيين هما محمد رسول آف ومصطفى الأحمد بسبب آراء نشراها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، انتقاداً لحملة القمع التي تقوم بها الشرطة ضد المواطنين. اطلق المخرجان وسماً عبر "تويتر" يحثّ قوات الأمن على التوقّف عن استخدام الأسلحة، وذلك في أعقاب الاحتجاجات التي حصلت في مايو (أيار) الماضي في مدينة عبادان جنوب غرب البلاد، حيث اندلعت اشتباكات مع الشرطة، بسبب انهيار مبنى أسفر عن مقتل 41 شخصاً. وكالعادة، تمت شيطنة كل مَن يقول كلمة حق في بلاد الملالي، واتُّهِم المخرجان بـ"صلات مع جماعات معارضة خارج البلاد والتخطيط لتقويض أمن الدولة".

ولم يمر يومان حتى أُلقي القبض على المخرج جعفر بناهي الذي هو أصلاً ممنوع من السفر والعمل لمدة عشرين عاماً. هذا كله أثار غضب المجتمع السينمائي الإيراني والدولي. ما لا يقل عن 70 سينمائياً إيرانياً وقّعوا على عريضة احتجاج ضد هذه الاعتقالات، وطالبوا بالإفراج الفوري عن المعتقلين. مهرجانات برلين وكانّ والبندقية ولوكارنو، أصدرت بيانات شديدة اللهجة، تستنكر فيها الهجوم العنيف الذي تشنّه السلطات الإيرانية على السينما… هذه السينما التي كلما خرجت مرة عن الطاعة، رأت فيها السلطات شيطاناً يخدم مصالح الغرب.

في آخر لقاء لي مع محمد رسول آف، قال حرفياً: "كفى، تعبت!". لم يكن هذا المخرج الذي بدأ يتكرّس عالمياً في مطلع العقد الماضي بعد عرض أفلامه في مهرجان كانّ، يشتكي من التعب الجسدي الناتج عن نشاطه السينمائي الغزير الذي جعله يراكم ثمانية أفلام طويلة، بل كان يتحدّث عن الابتزاز والمضايقات والمطاردات شبه البوليسية التي كان ضحيتها، ويعاني منها منذ سنوات على يد نظام بلاده. كان رسول آف يومها، عرض للتو في مهرجان كانّ، فيلمه "رجل نزيه" (2017)، ونال عنه جائزة "نظرة ما"، ممّا زاد من شراسة السلطات به. مع ذلك بدا لي هادئ البال، مطمئناً إلى الدرب المحفوف بالأخطار الذي سلكه منذ بداياته، كأن حملاً ثقيلاً هوى عن كاهله بعدما قال ما أراد قوله عن الفساد في إيران، وذلك باسلوب استعاري اشتهرت به السينما الإيرانية للتحايل على قوانين الرقابة.

رسول آف وبناهي يعانيان من العسف والاعتقال في بلد ارتأى حكّامه تحويله إلى سجن كبير. هذا الوضع لا يزال على ما هو عليه منذ 2010، تاريخ اعتقال الشرطة إياهما في منزل بناهي واتهاهمها بالتخطيط لإنجاز فيلم، انطلاقاً من حكاية عائلة توّرطت في التطورات التي تلت انتخاب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد. ما هو عبثي في الموضوع هو أن الفيلم لم يُنجز بعد. منذ ذلك الوقت، أصبحت قضية رسول آف/ بناهي قضية حريات، وتحوّلت إلى مسلسل طويل، فيه لحظات تمرد ولحظات تفاوض مع السلطة أو خضوع لها من جانب الفنانيَن المضطهديَن، فحظيت بتدويل غير مسبوق، جُمعت من أجلها التواقيع وصدرت في سبيلها البيانات المستنكرة.

"لا يوجد شيطان"، آخر فيلم لرسول آف، كان نوعاً من تحدّ للرقابة في إيران. فبعدما فاز بجائزة "الدب الذهبي" في مهرجان برلين، حُكم عليه بالسجن لمدة عام، إذ وجدت فيه السلطات الإيرانية دعاية ضدها. لم يحضر رسول آف إلى المهرجان لاستلام جائزته، رغم أنه كان قبل ذلك سافر وأنجز عدداً من الأفلام رغم الحظر ومنع السفر. وهذا أمر يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول العلاقة الملتبسة بين الفنّان الإيراني والسلطة الإيرانية. فكيف لمخرج ممنوع من العمل أن ينجز أفلاماً عدة، لا بل يتحرّك بحرية في العالم الواسع، والدليل لقائي معه مرتين، في كل من تسالونيك وكارلوفي فاري، منذ تاريخ صدور الحكم في حقه؟ سؤال لا يمكن أحداً الاجابة عليه. جعفر بناهي هو سيد التحايلات السينمائية. فهو صوّر أربعة أفلام بالسر مذ تم منعه عن ممارسة عمله. في "تاكسي" الذي نال "الدب الذهبي" في برلين، جاب بناهي شوارع طهران بحثاً عن ركّاب يقلّهم في سيارة الأجرة التي يقودها. أنجزه وهو "ممنوع من العمل". في الاستبعاد الذي كان يعاني منه، وجد بناهي الذريعة المناسبة التي تتيح له الاقتراب من الرأي العام الإيراني والتقاط الأفكار والهواجس والتطلّعات التي تؤججه. بكاميراه الصغيرة المثبتة قرب مقود السيارة، استعاد بناهي، رغماً عن أنف السلطات القامعة حقّه في الوجود داخل ضوضاء المدينة، بعد فيلمين صوّرهما في شقته. التجربة هذه أكبر دليل على أن الخيال الإنساني تصعب مصادرته والحاجة أمّ الحيل السينمائية.

أما رسول آف، فقدّم أربعة سيناريوات قصيرة للرقابة تحمل أسماء أربعة سينمائيين من أجل الحصول على إجازة تصوير فيلمه "لا يوجد شيطان". راهن على استخفاف الرقابة بالأفلام القصيرة، لكونها "لا تراقبها كما يجب"، كما صرّح لأحدى الصحف. وعندما نال إجازة التصوير، صوّر كلّ حكاية على حدة، ثم جمعها في فيلم واحد ليصبح فيلماً طويلاً. نحن هنا أمام حالة خاصة جداً: سينمائي ينجز عملاً فنياً مهماً في ظروف المنع والاضطهاد وينال جائزة في واحد من أهم المنابر الدولية (برلين). حتى في مسألة السماح بمغادرة إيران، المسألة ليست غير واضحة. الضحية نفسها تجهل سبب التساهل الذي تبديه السلطات أحياناً، فيما تبدي تشدداً في أحايين أخرى.

اذاً العلاقة الاشكالية والملتبسة التي تربط السينمائيين بنظام بلادهم في إيران غير مفهومة بالنسبة لنا (وهذا لا يخفف من القمع الذي تمارسه عليهم). انها علاقة تنطوي على الكثير من اللبس لا نفهم منها شيئاً. في هذا السياق، يقول رسول آف إنه سيواصل إنجاز الأفلام رغم الحظر، ولن ينتظر اذناً من أحد كي ينكب على التصوير. "إني أتبع الاجراءات الادارية التقليدية، لكن حتى لو رُفض طلبي، فهذا لا يقف عائقاً بيني وبين الفيلم".

جرت العادة أن تتلقّف السلطات الإيرانية نجاحات يحقّقها سينمائيون إيرانيون في الخارج، وتحاول توظيفها لمصلحتها. أصغر فرهادي أكبر مثال على السينما الإيرانية التي لا تضايق السلطات، رغم أنها ليست سينما موالية للنظام. يقول عنها رسول آف: "لا توجد أي مشكلة مع فرهادي. أسلوبه السينمائي لا يزعجهم. بطريقة ما، هو يتدبّر أمره معهم. أنا اصطدمتُ بالسلطات منذ فيلمي الثاني". هل هذا يعني أن فرهادي يلعب على الحبلين، وهذا ما تطلبه السلطات من الفنان؟ ما هو أكيد أنه مهادن أكثر من زملاء له، يمشي على خطى كيارستمي الذي لم يكن يتناول السياسة على نحو مباشر. لا ينظر فرهادي إلى العالم من وجهة نظر سياسية، كما يقول في مقابلة. مع ذلك، لا يخفي الحقيقة المرة، اذ يقول: "السياسة نظرة ضيقة جداً للأشياء، لا تستطيع أن ترى الكثير من خلالها. لكننا نعيش في بلد كلّ شيء فيه يتعرض للتسييس. مهما فعلتَ وأياً كان سلوكك، سيتم الردّ عليك بالسياسة".