تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

حيوانات وطيور تكتسب الهوية الوطنية

الحيوانات
AvaToday caption
اعتماد الحضارات القديمة على الحيوانات الضارية والمفترسة في شعاراتها أمراً عشوائياً أو مبنياً على الناحية الجمالية للحيوان، وإنما لما يعرف به من قوة وقدرة على الاصطياد والبقاء على الحياة
posted onOctober 7, 2023
noتعليق

قبل بضعة أيام، كنت أستمع إلى الأخبار في السيارة في طريقي لإيصال أبنائي إلى المدرسة، ومن ضمن ما ورد في النشرة الرياضية كان خبر خسارة منتخب "اللبؤات" الإنجليزي أمام نظيره الهولندي ضمن منافسات دوري أمم أوروبا لكرة القدم للسيدات. سألني ابني الذي يهتم بطبيعة الحال بكرة القدم أكثر مني، "لماذا يسمي الإنجليز منتخبي كرة القدم لديهم بالأسود واللبؤات؟"، فأجبته ببساطة واختصار "لأن الإنجليز يعتبرون الأسود جزءاً من هويتهم الوطنية"، لكن هذه المحادثة حرضت فضولي للبحث أكثر عن ارتباط الحيوانات بالهويات الوطنية لبعض الدول والأحزاب السياسية.

منذ فجر الزمن تعد الحيوانات جزءاً مهماً من التراث الثقافي والحضاري الإنساني، فهي كائنات رافقت وجودنا من البداية وتتمتع بجمال وقوة وصفات فريدة أثارت اهتمامنا، مما دفع القبائل والممالك القديمة إلى اعتماد حيوانات معينة، تكون مستمدة عادة من بيئتها ومرتبطة بنمط حياتها كرموز وشعارات تمثلها وتجسد هويتها وتميزها عن غيرها.

وعلى رغم اختلاف الثقافات إلا أن هناك شبه إجماع على الدلالات التي ترتبط ببعض الحيوانات، مما دفع حتى العلامات التجارية إلى استغلال هذه الدلالات للتسويق لمنتجاتها بغية تعزيز مفاهيم معينة والتعبير عن سمات تميزها وتسهم في تحديد مكانتها في السوق، مثل استخدام حيواني جاغوار أو بوما المعروفين بالقوة والسرعة والأناقة والديناميكية، أو تبني الحصان من قبل شركة "فيراري" لإبراز الفخامة والسرعة والأداء الرياضي العالي أو "رالف لورين" للتعبير عن التراث الريفي والأسلوب الكلاسيكي والأناقة.

استخدام النسر كرمز وشعار للدولة في مصر يعد أقدم الأمثلة المعروفة ويبرز في كثير من الجداريات والتماثيل الفرعونية للدلالة على القوة والسلطة، أما في بلاد الرافدين ففضل البابليون الأسد وكذلك الثور الذي نراه بكثرة في نقوشهم ويرمز إلى القوة والصمود.

وكان الفينيقيون من أوائل الشعوب التي اتخذت من الأسماك رمزاً لها في شعاراتها، إذ كانت السمكة الذهبية التي تعرف في يومنا هذا بـ"السمكة الفينيقية" تستخدم للتعبير عن ارتباط هذه الحضارة بالتجارة والحياة البحرية.

وتميز النسر الروماني بشارة تحمل ألوان الإمبراطورية تزين صدره، بينما اختارت الإمبراطورية البيزنطية اللون الذهبي لنسرها الذي يظهر في عدد من القباب والتماثيل في القسطنطينية (إسطنبول حالياً)، في حين تنوعت الحيوانات التي تبنتها الإمبراطورية الصينية عبر السلالات التي حكمتها لكن النمر والفهد والتنين هي الأبرز.

لم يكن اعتماد الحضارات القديمة على الحيوانات الضارية والمفترسة في شعاراتها أمراً عشوائياً أو مبنياً على الناحية الجمالية للحيوان، وإنما لما يعرف به من قوة وقدرة على الاصطياد والبقاء على الحياة، بالتالي يبرز استخدامه قوة الحضارة وصمودها وسلطتها على الأراضي التي تحكمها، أو تفوقها وتميزها وليكون رادعاً يرهب الأعداء والمنافسين.

من ناحية أخرى كانت هذه الحيوانات المتفوقة مرتبطة بالرموز الدينية وجزءاً من تصوير الآلهة الوثنية التي كانت مزيجاً من الأجساد البشرية وحيوانات قوية مثل الأسود والصقور والثيران، وبالتراث الثقافي والأساطير المتوارثة.

في بعض الحالات، هناك استمرارية للاستخدام الذي بدأ منذ وقت طويل للحيوانات كشعارات كما هي الحال مع الأسد الذي يعكس القوة والشرف والريادة لدى الإمبراطورية البريطانية، والنسر الذي يشير إلى الجلالة والسلطة لدى الإمبراطورية الفرنسية والتنين المتأصل في الحضارتين الصينية واليابانية ويعد تجسيداً للقدرة والحماية والحظ الجيد.

ومن المهم الإشارة إلى أن الدول لا تختار جميعها حيواناتها الرمزية بالطريقة نفسها، فمنها من تعتمد على كائنات موجودة في أراضيها أو لها علاقة بتكوينها الجغرافي أو البيئي مثل الفيل الهندي والنمر الماليزي والبطريق جنوب الأفريقي، وبعضها الآخر يستوحي حيواناته الرمزية من الأساطير والحكايات والديانات التي يؤمن بها مثل التنين في اليابان والصين وطائر الفينيق في سوريا ولبنان والغراب في أيسلندا.

وربما يتم تبني هذه الشعارات بعد أحداث أو ظروف مرت بها البلاد مثل الديك الذي صار شعاراً لفرنسا بعد عصر النهضة أو الخروف الذي يعتمد عليه الاقتصاد النيوزيلندي وإعلان البلاد في بداية القرن الـ20 واحدة من أكبر الدول المنتجة والمصدرة للخراف.

ولعل أشهر الأمثلة المعاصرة النسر الأميركي الذي يظهر في عدد من الشعارات والرموز الرسمية للحكومة، بما في ذلك شعار الدولة وبعض فئات عملة الدولار، في محاولة لعكس قيم الحرية والقوة والاستقلال.

وفي تناقض شديد مع وحشية التنين، تتبنى الصين أيضاً دب الباندا اللطيف شعاراً وطنياً لها في مسعى لعكس اهتمام البلاد بالحفاظ على البيئة والتنوع البيولوجي وحماية هذا الكائن المهدد بالانقراض.

أما أستراليا، فتتخذ منذ عام 1908 حيوان الكنغر رمزاً رسمياً لها يشيع ظهوره على الأعلام وفي الشعارات والحملات الإعلانية للترويج للسياحة في البلاد، وكذلك يرتبط حيوان الكوالا، لكن بشكل غير رسمي، بأستراليا التي تسعى جاهدة إلى حمايته والحفاظ على موطنه الطبيعي.

كان الثعبان يتمتع بأهمية بالغة في حضارة المايا ويمثل عدداً من القيم والمعتقدات لديها مثل التجدد والروحانية والسيادة، مما جعله رمزاً مثالياً يظهر في التماثيل واللقى المكسيكية القديمة وتتبناه البلاد شعاراً لها حتى يومنا هذا.

ومع أن التمساح مشهور بغدره إلا أنه تاريخياً كان يستخدم للدلالة على الحماية والأمان وما زال إلى الآن رمزاً مقترناً بمصر، ويشيع في دول الخليج تبني الغزال الذي يمتلك مكانة خاصة في الثقافة والتراث الشعبيين في السعودية والإمارات ويظهر بكثرة في الشعارات والرموز الرسمية والمهرجانات والمسابقات التقليدية، بينما تتبنى دول أخرى مثل قطر والعراق والبحرين وعمان واليمن شعار الصقر لاقترانه بالشرف والقوة والروح الحرة، إضافة إلى أن استخدام الصقر والغزال يعكس ارتباط الشعوب العربية بالبيئة والثقافة المحليتين وفخرها بهويتها الوطنية.

ويعد النسر الإمبراطوري الذي بات مهدداً بالانقراض ويعيش في المناطق الجبلية والوعرة رمزاً يظهر بكثرة في سوريا، بينما تتبنى جارتها الأردنية النسر الهاشمي الأسود الذي يعبر عن السيادة والقوة والعزة.

يمكن أيضاً أن تستخدم الحيوانات على نطاق أضيق من الدول ولكن كشعارات لأحزابها السياسية للإشارة إلى قيمها بالنسبة إلى الجمهور أو الناخبين أو المجتمع الدولي وأهدافها ولتوجيه رسالة معينة أو تمثيل مبادئ محددة.

فتتميز حملات الحزب الجمهوري الأميركي بالفيل الذي تم اعتماده منذ القرن الـ19 ليعكس قدرة وقوة الحزب، أما الحزب الديمقراطي ففضل الحمار ويظهر في ملصقاته وأعلامه وشعاراته منذ القرن الـ19 أيضاً، لما لهذا الكائن الصبور من ارتباط بالصمود والعمل الجاد.

وتتزين شعارات حزب الديمقراطيين الأحرار البريطاني بحمامة صفراء كرمز للحرية والسلام، بينما اتخذ حزب الحركة القومية التركي الذئب لتمثيل ما يتمتع به من قوة وثبات وإيمانه بالوحدة القومية.

قدسية الفيل في الثقافة الهندوسية وما يمثله من قوة وحكمة وسلام جعلت الحزب الوطني الهندي يتبناه رمزاً له، وتوجد صورة نسر في وسط شعار الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق للدلالة على هوية الشعب الكردي وكفاحه من أجل حقوقه واستقلاله وحريته، وكذلك يعد هذا الطائر رمزاً لكل من الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني للإشارة إلى التاريخ الألماني والوحدة الوطنية، والحزب الشعبي الإسباني وحزب التقدم الاجتماعي الكبير الناشئ في الصين.

ومع أن الدب لا يعد رمزاً رسمياً للبلاد، لكنه لطالما اقترن بروسيا بسبب أهميته في التراث والتاريخ الوطنيين، إذ إنه يعبر عن القوة والشجاعة ويظهر في كثير من الحكايات الشعبية والأساطير الروسية كمخلوق قوي وذكي، وهو الشعار الذي تبناه حزب روسيا الموحدة.

تقوم رموز الحيوانات بدور مهم في تعزيز هويات الدول على أوجه عدة، أبرزها الهوية الوطنية، إذ عندما يتبنى الشعار أو الرمز الوطني حيواناً معيناً يعكس هذا فخر شعبه بهويته ويجسد انتماءه إلى بلده وكذلك ارتباطه بتراثه الثقافي الذي يظهر الحيوان في قصصه الشعبية وأساطيره وتقاليده، وكذلك يعزز قيماً ومعتقدات تعتبر مهمة بالنسبة إلى الشعب.

وفي بعض الحالات، قد يكون استخدام حيوان معين مفيداً في تعزيز الوعي البيئي وتحويله إلى رمز وطني يشجع على حماية البيئة والمحافظة على الموائل الطبيعية لهذا الحيوان، بالتالي يسهم في تحفيز السلوك المستدام والاهتمام بالبيئة، كما تؤدي رموز الحيوانات دوراً في التواصل مع الدول الأخرى ويكون لها تأثير إيجابي في العلاقات الدولية والتبادل الثقافي وتعد وسيلة للتعريف بدولة ما وتراثها.

وتلجأ الحملات السياحية إلى شعارات الحيوانات لجذب السياح من مختلف أنحاء العالم، كما يبرز في مثال الكنغر والكوالا في أستراليا والباندا في الصين، وعلى المستوى الدبلوماسي تستخدم أحياناً مثل وسيلة لتعزيز العلاقات إذ تكون جزءاً مهماً من الهدايا التي يتبادلها الدبلوماسيون.

بشكل عام تتخذ الدول والأحزاب السياسية الحيوانات للدلالة على أمور مختلفة تتنوع بحسب البلد والحيوان والسياق الثقافي والتاريخي، لكن هذه الأهداف تنحصر عادة بالقوة والسلطة التي تمثلها الأسود والنمور والطيور الجارحة، والأصالة والتراث كما هي الحال مع صقور الصحراء المقترنة بالتقاليد البدوية وأهمية الحفاظ على هذا التراث في عدد من البلدان العربية.

وقد يكون الهدف تأكيد التجديد والتطوير والرغبة في التقدم والتحسين الذي يتمثل في حيوانات مثل الثعبان والفهد، أو التواصل مع البيئة والثقافة كما هي الحال مع الباندا والكنغر. أما سياسياً، فيكون المسعى التعبير عن التميز والتفرد والقوة في الساحة السياسية.

سواء كان لهذه الشعارات تأثير فعلي في تفاعلات الدول مع بقية العالم أو في أمزجة الناخبين، أو أنها مجرد أمر شكلي لا يختلف عن استخدام النجمة أو الوردة أو المنجل أو الشعلة، إلا أنها تبقى جزءاً من القيم والهوية الوطنية والثقافية لبعض الدول ومرآة تعكس التراث والتاريخ والرؤى التي تميز تلك الكيانات وتسهم في إثراء التفاعلات الثقافية والسياحية، وتخبئ خلفها قصصاً مثيرة تستحق البحث عنها واحترامها وتقديرها.