تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مئة عام على "النبي”: سرّ الغرابة الأليفة

جبران خليل جبران
AvaToday caption
كان "النبي" فخّا "غربيّا" مليئا بالشِّعر من دون أن يكون قصيدة، وملقّحا بالفلسفة من دون أن يكون مدرسة فلسفيّة مغلقة، فلسفة بلا أيديولوجيا
posted onAugust 27, 2023
noتعليق

مئة عام على صدور رائعة جبران خليل جبران "النبي" بالإنكليزية وهي ذروة ما كتبه وخلاصة فلسفته التي عبّر عنها في عناوين عديدة، تتناول قضايا دينيّة واجتماعيّة وفكريّة، حتّى التفاصيل، منها "اللباس" و"الزواج" و"المحبّة" و"الأولاد".. والبيع والشراء والعمل... والحرّية. إنّها رؤية شاملة قلّما تعرّض لها كاتب أو مفكّر أو متفلسف.
لهذا اعتبر جبران كتابه "ولادته الثانية".

يسرد هذه الأفكار على لسان "المصطفى" الذي ظلّ بعيدا عن وطنه الأمّ اثني عشر عاما عاش فيها بين سكّان أورفليس كواحد منهم، ينتظر عودته إلى مسقط رأسه، ترسو السفينة التي ستقلّه وعندما يحين موعد رحيله، يرجوه سكان المدينة أن يخطب بينهم.

لكنّه آثر محاورتهم على طريقة أفلاطون. إذن الصورة المسرحيّة واضحة: المصطفى هو البطل، والمطرة (العرّافة) التي تقوم بتشجيعه على الإجابة عن أسئلة الحاضرين، كأنّها مخرجة العمل، والجمهور حضور المسرحيّة، بسرديّة طويلة.

وهي المطرة تفتح "النقاش" بسؤال، يمتدّ إلى 26 مسألة.

لأنّ جبران يتبع أسلوب أفلاطون في حوارياته ويرى أنّ الشّفوي لا الكتابي، هو أفعل في الناس. ويجيب المصطفى، من دون تعقيد، أو إبهام، على كلّ ما طُرح عليه: لغة بسيطة،مفهومة، بلا مصطلحات مركّبة على خلاف نيتشه الذي صاغ بعض فلسفته في الشِّعر المكتوب، وهكذا يبعد "مفهوم" المونودراما عن كلامه (أي الممثّل الواحد)، وكأنّه يلبّي رغبات الجمهور، في التعبير عن مشاكلهم وقضاياهم.

لغة "النبي" من القلب إلى القلب، ومن العقل بالصورة والتشابيه والأمثلة، إلى مستويات الناس وهمومهم. فاللغة صحيح أنّها من المصطفى، لكنّها كأنّها طالعة من الناس، وبها استعان جبران بثقافته الفلسفيّة والدّينيّة والفكريّة الواسعة بمؤثراتها (الجديدة)، كالمسيحيّة والبوذيّة والحلوليّة "أُلوهيّة" الله في الطبيعة. بما أنّ جميع الكائنات الحيّة التي تأتي من الإله وتعود إليه، فإنّ الله موجود في كلّ شيء، موجود في كلّ الأماكن وفي جميع الأوقات".. ويعترف المصطفى في الوقت ذاته بسِمات الله الإنسانيّة عندما يؤكّد "أنّ الله لا يستمع إلى كلماتكم إلّا بنفسه من خلال شِفاهكم".

المهمّ أنّ هذه اللحظات "المسرحيّة" بأشخاصها، وجمهورها، كأنّها طالعة من الواقع (المفترض)، من المصطفى، والمطرة، والناس.

يقول ميخائيل نعيمة: إنّ المصطفى هو جبران خليل جبران، حيث تتوافق السنوات الاثنتي عشرة التي قضاها في أورفليس مع اثني عشر عاما قضاها في نيويورك. و"المطرة" (العرافة) تمثّل ماري هاسكل (التي رعته وتبنّته)". ويقول نعيمة "إنّ الوعد بالعودة إلى أورفليس يرجع إلى اعتقاد جبران بالتقمّص والتناسخ"، ويقول آخرون إنّ أورفليس ترمز إلى الأرض، وإن إقامة المصطفى فيها 12 عاما توازي "الروح الفرديّة في توقها إلى الروح الكلّية أثناء وجودها على الأرض".

والمعروف أنّ جبران ينتسب إلى الطائفة المارونية حيث وُلد في بشرّي (شمال لبنان)، لكنّه تأثّر بقوّة بالصوفيّة والعقيدة البهائيّة ويشجّع على فكرتَيْ الوحدة والتعايش اللّتين تنبعثان من خلفيّته اللبنانيّة (تعدديّة الطوائف)، كما أنّ كتابه "النبي" يستند إلى "الطبيعة المترابطة للإنسانيّة وراء الدِّين". فهو مسيحي مفتوح على كلّ الطاقات والأفكار الروحية التي تأثّر بها. من هنا يقول "إنّ أطفالكم ما هم بأطفالكم، فقد وَلَدَهُم شوقُ الحياة إلى ذاتها. بكُم يَخرجون إلى الحياة ولكن ليس منكم، وإن عاشوا في كَنَفِكُم فما هُم مِلْكُكُم".

ونظنّ أنّ الرومانطيقيّة هي الفضاء المتّسع الذي تحرّك فيه جبران، الرومانطيقيّة التي انتشرت في الولايات المتّحدة وإنكلترا وفرنسا، وتخرّج منها شعراء كبار كفيكتور هيغو، ودو موسيه وبايرون وكيتس، وعندنا الشّابي وخليل مطران وميخائيل نعيمة وعلي محمود طه وإلياس أبو شبكة... وشكّلت هذه الرومانطيقيّة نزعة تحرّر من التقاليد والقديم في ثورة، قلّما عرف قبلها الشِّعر العربي. من هنا بالذّات ومن عمق هذه الرومانطيقيّة وتفجّرها خرج أيضا جبران، وتجلّى ذلك في العديد من كتبه وقصائده.

فالرومانطيقيّة كانت منذ القرن التاسع عشر وحتّى منتصف القرن العشرين ثورة متكاملة في الفكر والشعر والرسم والموسيقى، وبهذا كانت ثورة عالميّة شملت الغرب والشرق والعالم العربي.
هنا نجد جبران، لكنه من خلال انفتاحه، اطّلع على قسط كبير من الثقافات الشرقيّة الأخرى، من البوذيّة إلى الصوفيّة، والتناسخيّة، ومن هذه المناخات، نوَّع جبران وسائط أعماله، ونبراته، وأساليبه.

على هذا الأساس يبدو "النبي" وكان كتاب جبران الثالث، مختزلا كلّ هذه الثقافات الغربيّة والشرقيّة والمسيحيّة والإسلاميّة إضافة إلى تأثّراته بكبار الفلاسفة كنيتشه. وهذا كلّه، جعل "النبي" ثمارا ناضجة حيّة ملوّنة سحرت ألوف القرّاء في أميركا وإنكلترا والعالم العربي وحتّى أوروبا. كان "النبي" فخّا "غربيّا" مليئا بالشِّعر من دون أن يكون قصيدة، وملقّحا بالفلسفة من دون أن يكون مدرسة فلسفيّة مغلقة، فلسفة بلا أيديولوجيا، بل تأملات هي مزيج من الواقع الحيّ إلى المخيّلات الحسّيّة، تجفو الأنماط التجريديّة، ولكن من دون الوقوع في العادي. بل تبحث في العادي والتقليدي والسائد، بلغة غير عاديّة وغير تقليديّة، إنّه سرّ "النبي"، إنّه سرّ الغرابة الأليفة، وإلفة الغرابة في أجوبته على أسئلة الجموع. جعل اليومي بكلّ ثقله وأشيائه، "حدثا" صوتيّا، وفكريّا.
وعدَّد أجوبة إلى حدود لا تتلاقى ربّما شكليّا بل لتنصهر داخليّا في علاقاتها من دون أن تشكّل سلوكا أحاديّا. فجبران المتعدّد (الرسّام والشّاعر والقصّاص) يجمع المختلفات، ويفصل المتشابهات، متجنّبا الوقوع في الأنماط التاريخيّة أو الأحاديّات الفكريّة، هذا كلّه جعل "النبي" ينتشر كالسِّحر بين ناس أوروبا وأميركا والعالم العربي، بات أوّل كتاب "بيست سيلرز" في ستينات القرن الماضي عندما كان يباع كالخبز في أوروبا وأميركا.

وقد تكرّس ذلك في ترجماته إلى عشرات اللغات، وبات المنافس الأوّل، في هذا المجال لشكسبير في رواجه. وقد أدّى ذلك إلى اعتبار جيل الشباب في منتصفات القرن الماضي بأميركا "النبي" "كتابهم"، وراح البعض يتلو من فصل "الزواج"، لقران بعضهم... بل أنّ فرّقة البيتلز وسواها استلهمت نصوصه، كجون لينون الذي استلهم قصيدة "رمل وزبد"، وغنّى جاكي ماكلين من "النبي".   

ويمتدّ صيت "النبي" إلى جهات الأرض الأربع. وقد نشرت مجلّة "لوبوان" الفرنسيّة قبل سنوات، أن "النبي" تجاوز في إيطاليا وحدها بيع ثمانية ملايين نسخة.

بمعنى آخر إذا كان شكسبير والصيني لاوتسو، سجّلا تنافسا في توزيع كتبهما، في أكثر من مليون نسخة، تتوزّع على بضعة أعوام، ولم تتراجع هذه الأرقام حتّى اليوم، فإنّ جبران خليل جبران وحده ينافسهما. كلّ هذا يعود إلى طبيعة هذا الكتاب ولغته، وبساطته وعمقه وغِنى مصادره،  واعتباره من الأوائل بين كتاب العالم الذي توجّه إلى نهل الأفكار الشرقيّة، في الصين والهند وحتّى اليابان.. بل يعتبر جبران أوّل كاتب عربي يجمع في ثقافته ما هو غربي – أوروبي -أميركي... وما هو شرقي متقادم، دينيّا، وفكريّا، وشعريّا، وإثنيّا.

إنّه كتاب جامع، "لا مُفرِّق"، فيه الفكر من دون مذاهب أيديولوجيّة، وفيه تلاقح ديني وحضاري وشعري، على مسافته انفتاح "الذاتيّة" على ما تتعطّش إليه وتتبنّاه، لا حقائق لازبة، وإنّما كحاجات نفسيّة، وروحيّة واجتماعيّة وإنسانيّة. كلّ ذلك استوعب، لا بأداة المدارس الفكريّة المحدّدة، بل بالشِّعر، مزاوجة الشِّعر بلغته البسيطة والرحبة، وإيقاعاتها، كأنّما انخراط في مجمل أنواع الحقائق الذّهنيّة والغيبيّة والميتافيزيقيّة. من هنا إنّ نهوض جبران في "النبي" من "الدِّين" أو "المعتقد" إلى ما هو "ميتافيزيقي"، أي إلى ما هو في جزء منه متغرّب، وما بعد مادي، وما بعد كلّ حقيقة "متكاملة". لهذا نقول إنّ "فكر" جبران في "النبي" يشبه أسلوبه، كلاهما يتزاوج بالدّلالة، وما بعد الواقع وأحيانا ما دونه. فـ "النبي" ليس ظاهرة مادّية فقط، ولا نتاجا ذهنيّا فقط، ولا درسا واضحا في الغيب والخارق والما فوق. إنّه في جزء منه "محجوب" (يستدعي التفكيك)، أو مبسّط يستدعي "التعمّق"، ككلّ ميتافيزيقيا أو ديانة، أو حتّى اتّجاه فلسفي، كلّ ذلك يحتاج إلى إنتاج واقع ما، أو "حقيقة" ما أو مجهول يبحث عن معلوم أو معلوم يبحث عن مجهول.

هذا هو سحر "نبي" جبران، إنّه قال كلّ شيء وهو يودّع، لكي يتفكّر الجمهور بآرائه، وحكمته، و"طوباويّتة"... بعد رحيله.

لم تعد أفكار "النبي" مُلكه بل ملك هذا الجمهور الذي يعتبر ربّما أنّ كلّ ما قاله جدير بالبحث والاختيار أو حتّى الرفض.

وُلد جبران خليل جبران في بشرّي من لبنان الشمالي 1883، وتوفّي عام 1931، بعد إصابته بالسلّ وتليّف الكبد، أوصى بدفنه في لبنان وهكذا كان.

ودُفن في بلدته بشرّي وتحوّل مدفن جبران إلى متحف باسمه.