تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

البير كامو يعود مجددا

ألبير كامو
AvaToday caption
أصدر غاستون غاليمار رواية "السقوط" في 16 مايو / أيار 1956، في طبعة أولى من 17 ألف و500 نسخة. وفي أول يونيو / حزيران أصدر 11 ألف نسخة أخرى
posted onMay 18, 2023
noتعليق

ترجمة جديدة لراوية "السقوط" للكاتب الفرنسي ألبير كامو، أنجزها المصري ماهر البطوطي عن الأصل الفرنسي، صدرت  حديثاً عن دار "الكتب خان"، وقدَّم لها الناقد الأكاديمي ماهر شفيق فريد  بدراسة من 35 صفحة. ومع التقدير التام لترجمة بطوطي، فإن دراسة فريد تستحق تسليط الضوء عليها، في سياقها، كما في سياق التذكير بحضور كامو في الثقافة العربية، منذ أن كتب طه حسين في أواخر أربعينيات القرن الماضي في مجلة "الكاتب المصري"، فصلاً عن روايته "الطاعون"، أدرجه في ما بعد في كتابه "ألوان". وفريد، سبق أن فاز عام 2019 بجائزة حمد للترجمة عن مجمل إنجازه الذي يشتمل على أكثر من ثلاثين كتاباً، في مقدمها "الأعمال الكاملة للشاعر ت‏. ‏إس.‏ إليوت"،‏ و"المختار من نقد ت.إس. إليوت".

وإذا كان كامو قد أعلن ذات يوم أنه يطمح إلى أن يكتب النثر مثلما كان موزار يكتب الموسيقى، فقد تحقق طموحه هذا في "السقوط"، الرواية "التي تقول الكثير وتشي بديْن كامي لنيتشه الذي برع في هذا اللون من الكتابة. أقوال حِكمية تلتصق بالذاكرة لأنها تجمع بين صدق المحتوى وإحكام الشكل"، بحسب تقديم فريد. وهي ربما تكون أفضل كُتب كامو، بشهادة سارتر الذي رأى أن صاحبها تمكَّن فيها من الكشف عن ذاته وإخفاء ذاته في آن واحد. أما سيمون دي بوفوار فلم تشارك سارتر تلك الحماسة. وهي في رأي كينيث ماكليش، "أكثر أعمال كامو عدمية ولكنها أيضاً أكثرها سخرية". أما شفيق فريد فرأى أن هذه النوفيلا تثير أسئلة عدة تتصل بالعنصر الأوتوبيوغرافي فيها، ومعنى السقوط في الفكر الديني، وعلاقة كامو بسارتر.

ويرى فريد أن هذا الرأي نابع من ذهاب البعض إلى أن "السقوط" هي رد مباشر على جان بول سارتر بعد ما وقع بينه وبين كامو من خلاف، عبَّرا عنه على صفحات مجلة "الأزمنة الحديثة"، منذ سبعين عاماً. ويقول فريد إن سارتر ربما كان حاضراً في ذهن كامو وهو يؤلف روايته، "ولكني أرى أنها أكثر اتساماً بالطابع الإنساني العالمي، وأشد انشغالاً بالقضايا المعنوية الجادة، من أن تكون رد فعل شخصياً أو محاولة تسوية حسابات فردية" ص37. أما السؤال المتعلق بمعنى السقوط، فيجيب عنه فريد أيضاً بما يخالف قناعات من رأوا أنه ديني، ومنهم المصري إدوار الخراط، ويقول أن كامو استخدم تلك المفردة La Chute والتي ترجمها البعض إلى "السقطة"، بمعنى أخلاقي محض، ومن منظور إنساني، مستفيداً في الوقت ذاته – ولأغراض فنية محضة – من الإيحاءات الغنية التي تراكمت حول المصطلح في بعده الديني على مر العصور، ومن مكانته المركزية في التراث الفكري، كما في شعر دانتي وملتون. ويضيف فريد في هذا الصدد أن سقوط كالامنس (بطل الرواية) ليس خطيئة أصلية بالمعنى اللاهوتي (وإن اتخذ من اللاهوت إطاراً مرجعياً) وإنما هو سقوط أخلاقي مرده اتخاذه موقفاً جباناً وأنانياً، والمواقف هي ما تكشف معادن الرجال، وهنا يلتقي كامو مع سارتر.

ولكن هل يعني ذلك أن كامو كان كاتباً أخلاقياً؟ يقول فريد إنه كان كذلك، ضمن موروث فرنسي عريق يضم مونتيني صاحب "المقالات"، ولابرويير صاحب "الصور الأخلاقية"، ولاروشفوكو صاحب "الحِكم"، وبسكال صاحب "الخواطر"، وحتى فولتير وروسو وراسين، ومن بعدهم بروست وجيد ومورياك وسارتر!

أما السؤال الأول الخاص باحتمال أن يكون "كلامانس" صورة من كامو، فيجيب فريد عنه بأنه لا يستبعد ذلك الاحتمال... "ألا يحتمل أن يكون كامو شاعراً بالذنب لأنه لم يقف بجانب الجزائريين في سعيهم المشروع نحو الاستقلال، على حين انحاز سارتر ومثقفون فرنسيون آخرون إلى منح الاستقلال الكامل للجزائر؟". هنا، كما يلاحظ فريد، تكتسب "الرواية بعداً سياسياً إضافياً". ومن ثم يستدعي ما كتبه صلاح عبد الصبور في مجلة "صباح الخير" القاهرية في 14 نوفمبر / تشرين الثاني 1957: "في حياة كامو مواقف مشرفة ضد النازية ولكنه مازال حتى الآن كولونياً يمثل عقلية المستعمر، فهو رغم ادعائه أنه جزائري، لم يحاول أن يؤدي دوره كمثقف في وقف المذبحة في الجزائر، ولم يوقع مع مورياك وسارتر وماسينيون وغيرهم العريضة التي تقدموا بها للحكومة الفرنسية لوقف الحرب في الجزائر، وتذرع بأنه لا يحب أن يؤدي دوراً سياسيا".  

وإذا عدنا إلى المترجم ماهر الطوطي، فنجد أن له العديد من الأعمال المترجمة عن الانجليزية، ومن أبرزها رواية جيمس جويس "صورة الفنان في شبابه"، وقد أنجز ترجمتها عام 1973، ومسرحية جبران خليل جبران "الأعمى"، ونقل عن الفرنسية مسرحية مرغريت دوراس "الأنهار والغابات"،  كما أن له رواية صدرت عام 1994 بعنوان "عزلة النسر"، وهو مؤلف كتاب "الرواية الأم: ألف ليلة وليلة والآداب العالمية" 2005. وبداية يقر فريد بأنه نسي أو كاد القليل الذي كان يعرفه من الفرنسية في شبابه، ومن ثم فإنه ليس مؤهلاً لأن يحكم على ترجمة من الفرنسية إلى العربية. ومع ذلك فإنه يثق كما يقول في جودة ترجمة البطوطي لرواية كامي، استنادا إلى جودة ما ترجمه من قبل عن الانجليزية، "وللقارئ أن يثق أنه سيجد هنا ترجمة كاملة دقيقة لأثر كامو، ترجمة من رجل استوفى شروط الترجمة".

لقد سبق أن كرَّس عبد الرحمن بدوي فصلاً من كتابه "دراسات في الفلسفة الوجودية"، لكامو وموته العبثي. وترجم الفنان التشكيلي رمسيس يونان مسرحية "كاليغولا"، وترجم إدوار الخراط ثلاثة نصوص مسرحية له، قدمتها الإذاعة المصرية ولم تطبع في كتاب، وهي "سوء تفاهم"، "الحصار"، و"المجانين" (إعداد كامو الدرامي لرواية ديستوفسكي "الممسوسون"). وكتب فؤاد زكريا نقدا قوياً من منظور فلسفي - بتعبير ماهر شفيق فريد -  لكتاب كامو "الإنسان المتمرد" على صفحات مجلة "الفكر المعاصر". ولعبت دار "الآداب" البيروتية تحت قيادة سهيل إدريس الذي ترجم له أكثر من كتاب، دوراً مهماً في نشر فكر سارتر وكامو ودي بوفوار وفرانسيس جانسون، إلى جانب كولن ويلسون وهربرت ماركوزه وغيرهم. ولعبد الغفار مكاوي كتاب عنوانه "ألبير كامو: محاولة لقراءة فكره الفلسفي" (دار المعارف 1964) وهو من أجمل ما كتب في الأدب والفكر الفرنسي باللغة العربية.

أصدر غاستون غاليمار رواية "السقوط" في 16 مايو / أيار 1956، في طبعة أولى من 17 ألف و500 نسخة. وفي أول يونيو / حزيران أصدر 11 ألف نسخة أخرى. وبحلول نوفمبر (تشرين الثاني) كانت مبيعات الرواية قد بلغت 126 ألفاً و500 نسخة.  

وفي ختام دراسته التي كتبها من مقر إقامته في قرية أينسديا، مقاطعة ميرزي سايد، إنجلترا، رأى ماهر شقيق فريد – من منطلق أخلاقي وعظي على ما يبدو- أن الحياة "تزخر بالكثير الذي يدعو إلى الخشوع والاعتبار، وفي فلسفة كامو العبثية، وورطة سيزيف الميتافيزيقية، وسقطة كلامانس المأساوية ما يدفعنا إلى إنعام النظر في منطق الأحداث، واستخلاص العبرة من مواقف العيش، والتأمل في نقائض الطبيعة البشرية، وسبر أغوار قضايا الأخلاق من خطيئة وغفران، وإثم وبراءة، وذنب وتكفير، وبوح واعتراف وكتمان".