تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ما تبقى من رحلة "الشتاء والصيف"

أكواخ القصب
AvaToday caption
يعود ذلك في تقدير الباحث إلى أن الاستقرار ضمن للمرء ولسلالته في "القشلاق"، فيما كان الواقع فيما مضى قبل منحهم الأرض يحتم على العشيرة تغيير المقار سنوياً، مما يجعل "التعاون الوثيق بين أعضاء العشيرة ضرورياً"
posted onDecember 30, 2021
noتعليق

 

عندما تعتقد أن "إيلاف رحلة الشتاء والصيف" بين القبائل العربية قصة تاريخية عفا عليها الزمن، أو أنها تقتصر على أولئك المكيين القرشيين في غابر الأزمان، فما عليك إلا أن تلقي نظرة على حكاية حديثة وثقت ما تبقى من ذلك "الترحال" ليس في مضارب بني أمية وبني هاشم، ولكن في ناحية أبعد وأغرب، هي ديار "الطاجيك" و"البشتون"، بين أفغانستان وطاجيكستان وأوزبكستان.

وجود العرب في تلك الديار حتى اليوم بقبائل مثل "القرشي، والشهري، والمحمدي" وحده لافت، بعد مرور عقود وقرون على تحولهم من معاقلهم في الجزيرة العربية والشام والعراق، إلا أن الأكثر غرابة هو تمسكهم بالتقاليد العربية القديمة نفسها، في الزواج والطلاق والتجارة والترحال، فضلاً عن الشقاق والفرقة.

وتشير الدراسة الغربية التي أخرجها حديثاً مركز التواصل المعرفي للدراسات ومقره الرياض، إلى أن العرق العربي في شمال أفغانستان، على الرغم من التحولات التي مر بها والتطورات التي تهدده بالذوبان في المستقبل، فإن سماته الرئيسة في النواحي الثقافية والاجتماعية والقبلية والتمايز عن جيرانه من البشتون والطاجيك، لا تزال محل ملاحظة واندهاش الباحثين.

وكشف البحث الذي حمل عنوان "عرب وسط آسيا في أفغانستان" لكاتبه الإنجليزي توماس جي. بارفيلد، عن أن التكوين القبلي للعرب هنالك آخذ في التداعي، فصارت العشيرة والأسرة عوضاً مقبولاً عن القبيلة، التي لم يعد الانتماء إليها محفزاً لمعظم المكونات العربية هنالك، بفضل تشكل الدولة الحديثة في أفغانستان قبل عقود، مما أدى إلى تراجع ملحوظ في دور القبيلة، ومن ثم التشبث بأعرافها وقيمها الاجتماعية على النحو السابق. إلا أن ذلك التصور المبكر (1975) أخذ يتراجع في الفترة التي أعقبت تفكك الدولة ما بعد الاحتلال السوفياتي، مما جعل المكونات المختلفة تحتمي بأرومتها العرقية في الداخل الأفغاني، وجوارها الإقليمي في مثل باكستان وأوزبكستان.

وفي وقت تدافع فيه طاجيكستان عن حظوظ عرقية الطاجيك وإيران عن الفرس (الهزارة) لم يكن للعرب وسط آسيا (الأفغان) دولة قومية يحتمون إليها في الجوار، لتدافع عن حقوقهم. لكن هذه المعادلة ربما قد تتغير حديثاً إثر انضمام دول خليجية وعربية بينها مصر والسعودية وقطر إلى منظمة "شنغهاي" الآسيوية كشركاء تمهيداً لشغل مقعد العضوية.

ويوثق الباحث بارفيلد أن المكون العربي في شمال أفغانستان الذي بقي معروفاً بانتمائه العرقي، يتشكل من 13 عشيرة مثل "قرشي، شهري، علي ممتي (محمدي)"، وألقاب أخرى لا يظهر في أي منها اشتقاقه من جذر عربي، فهناك "كال دولاتي، وهزرده ديوانه، وشال بافي، وكوتاكارا، وكوردون، وترك" وغيرها.

وأما عن الأساس الذي بنى عليه الباحث تحديد هويتهم، فإن أهمه تمسكهم جميعاً في منطقة "قطغن" الأفغانية في الأقل بأنهم "قوم عرب"، أي إنهم قبيلة أو شعب عربي، "وبالنسبة إلى من هم ليسوا من العرب، فإن هذه العلامة عادة ما تكفي، إلا أن الذي يميزهم بين أنفسهم والناس الآخرين الذين تربطهم بهم علاقات قوية، فإن المصطلح المناسب له هو (الطائفة) وتعني العشيرة"، إذ يتكون العرب هنالك من العشائر الـ13 المشار إليها.

وبدأ تكتل العرب في الشمال الأفغاني منذ غادروا بخارى الواقعة ضمن دولة أوزبكستان المجاورة، في سبعينيات القرن التاسع عشر، إذ "بدا أن تركيبة العشيرة تلقت حافزاً أساسياً لأنهم أصبحوا بدواً خلصاً لمدة خمسين عاماً"، وذلك قبل أن يمنحهم الملك الأفغاني أرضاً للسكن والمرعى في عشرينيات القرن العشرين، "لتكون مقار ثابتة دائمة" للعرب تسمى "قشلاق" في مقاطعة "إمام صاحب"، مثلت في الوقت الراهن كما يروي المؤلف في استقصائه الميداني "قرى عشائرية".

ويضيف "مع أن المقار (القشلاقات) قد تكون منحت لكل عشيرة كمجموعة متحدة، إلا أن الأرض عدت ملكية خاصة لكل رب أسرة، فتوطدت مع الوقت بذلك روابط القرابة، أو الخلافات الشخصية التي حددت الأماكن التي استقرت فيها الأسرة بادئ الأمر... وبينما عمل منح الأرض على إبقاء العشيرة على وحدتها مكانياً؛ فإن العشيرة انحسرت في أهميتها سياسياً واقتصادياً، فمع الملكية الخاصة للمرعى وممتلكات الأرض الدائمة في (إمام صاحب) تضاءلت أهمية الإبقاء على روابط القرابة".

يعود ذلك في تقدير الباحث إلى أن الاستقرار ضمن للمرء ولسلالته في "القشلاق"، فيما كان الواقع فيما مضى قبل منحهم الأرض يحتم على العشيرة تغيير المقار سنوياً، مما يجعل "التعاون الوثيق بين أعضاء العشيرة ضرورياً".

ويتكون "القشلاق" الواحد من 60 بيتاً مقسمة على نحو 20 مجمعاً، كما هو الحال في قشلاق "الكوته باي"، حيث "بُني التجمع بتشييد سياج عالٍ من القصب مع أكواخ القصب التي تبدو كأنها قلاع من القصب ذات أسوار وحصون، وتحوي المجمعات من بيت إلى ستة بيوت، يوجد في منتصفها مسجد من القصب". ويلعب الوجيه العربي ويسمى "باي" والجمع "بايات" دوراً اجتماعياً مؤثراً، مثل المعتاد لشيوخ القبائل على النحو المعروف عربياً، فيصلح بين الخصوم، ويسوي الخلافات بين الناس، قبل وصولها إلى الحكومة.

وفي وقت يقضي فيه العرب معظم أيام حياتهم الهانئة في "القشلاق" محل الاستقرار، يحزم الرعاة منهم أمتعتهم في فصلي الربيع والصيف، للبحث عن المرعى في الأراضي الخصبة المخصصة لهم أيضاً، التي يدعونها "الأيلاق"، ثم "بعد التشتت الذي يتسم به الربيع والصيف، تأتي العودة إلى القشلاق الذي يتسم بتنظيمه السكاني المركز، فينظر إلى هذه العودة بارتياح... إذ تقام الولائم واحتفالات الزواج والخطوبة والختان، وتوفر هذه المناسبات التي تكسر رتابة الحياة البهجة الرئيسة خلال العام".

ووثق الكاتب مشاهد من رحلة الشتاء والصيف العربية نحو المراعي وإلى القرى في الشتاء، وضمن الكتاب صور قوافل الإبل والخيل وركابها، يسوقون البهائم بين الوديان والجبال "فعندما يذهب بدو (قطغن) إلى الجبال فإنهم يمضون في جماعة، وتدخل جبال بدخشان مجموعات كبيرة... مثلما يتجه البدو كذلك من (إمام صاحب) إلى بادية (درواز)، أما أولئك الذين قدموا من جنوب قطغن فيتجهون إلى بحيرة (شيوه)، وهناك عدد محدود جداً من الطرق والممرات، ولذا يتحرك البدو وكأنهم تيار سائل فوق مسلك يمكن التنبؤ به".

لكن هذه الرحلة لم تكن عبثية في ظن الكاتب، فهي تعود على المجموعات بفوائد اجتماعية واقتصادية، تتجاوز توفير المرعى لبهائمهم إلى "إقامة علاقات نافعة مع القرى التي يعبرونها"، في رحلة تستغرق عادة ثلاثة أسابيع.

والأهم من ذلك أن تمسك العرب بهذا النمط من العيش، مع إمكانهم الخلود إلى الراحة في الحضارة، يرجح الباحث أنه يعود إلى رغبتهم في "دفع ثمن الخضوع السياسي للحصول على منفذ لموارد يعتمد عليها"، موارد تمكنهم من الحفاظ على أصولهم الحيوانية التي يثقون بها أكثر من الحقول والمزارع، إذ ينتقدون من يبيع ماشيته ليشتري بها أرضاً أو مزرعة.

جميع ذلك، إضافة إلى متغيرات القرن العشرين المتلاحقة، لا يشكل تهديداً لوجود العرب في شمال أفغانستان، بالقدر الذي تنذرهم الفرقة بالتلاشي والذوبان، وفق تقدير الباحث الذي أكد أن "المشكلة الأساسية التي يواجهها العرب بعد ترك الالتزام بالقرابة من أجل المصالح الذاتية، هي أنهم تركوا أنفسهم عرضة لهجوم الآخرين عليهم أفراداً".

ويخلص إلى أن تخاذل العرب عن تنظيم أنفسهم في تلك الناحية من شأنه أن يفضي إلى ذهاب ريحهم، مستعيراً من دارس استقصائي آخر هو بنيامين فرانكلين قوله "يحتاج العرب إلى أن يتعلق بعضهم ببعض قبل أن يُعلقوا من رقابهم، كل على حدة".