تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كاكوتا في جحيم حياة النساء اليابانيات

ميتسويو كاكوتا
AvaToday caption
امرأة تتألم بصمت من ذكورية زوجها وبروده، وتستسلم لنزوة التسوق كعلاج لفراغ حياتها وقلقها واكتئابها
posted onOctober 19, 2021
noتعليق

من رواية إلى أخرى، وببصيرة قارصة، تتابع الكاتبة اليابانية ميتسويو كاكوتا استكشاف مفاعيل المجتمع الياباني على سيكولوجيا نسائه، راسمة لنا بورتريهات مؤثرة لإناث يبدون كمجموع مشاعرهن، المعقدة غالباً، وأيضاً كنتاج ظروف وأحداث حياتهن. نساء قادرات على كسر أغلال واقعهن اليومي البائس، وعلى القفز إلى الجهة الأخرى من حياتهن للإفلات من التقاليد الاجتماعية التي تحاصرهن وتخنق تطلعاتهن.

وإلى هذا النوع من النساء تنتمي ريكا، بطلة رواية كاكوتا الرابعة والجديدة، "قمر من ورق"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسية. امرأة أربعينية جميلة، بعد أن حاولت عبثاً، وبتواضع مؤثر، التماشي مع دورها كزوجة نموذجية، متزنة إلى حد الإمحاء، تستيقظ يوماً لتدرك أن "كل ما فعلته منذ زواجها بات باهتاً وبعيداً منها، مثل جدار برلين على شاشة التلفاز"، فتعود إلى رشدها وتمسك بزمام حياتها بيديها. كيف؟ من خلال العودة مجدداً إلى عالم العمل لتغطية نفقاتها الخاصة والاستقلال نسبياً والتمتع بحد أدنى من الحياة الاجتماعية.

وفي هذا السياق، تجتاز امتحاناً مهنياً يفتح لها أبواب مصرف حيث يجري تعيينها بسرعة كمسؤولة عن الزبائن المسنين. وبفضل لطفها وتفانيها في عملها، يمنحها هؤلاء ثقتهم، ويتكلون عليها في جميع عملياتهم المصرفية وفي إدارة مدخراتهم.

لكن، ما الذي حصل مع ريكا كي نراها في مطلع الرواية وقد فرت إلى شمال تايلاند، بعدما اختلست ما يقارب مليون ين من المصرف الذي كانت تعمل فيه، ونرى زوجها وصديقاتها ومختلف معارفها تحت وقع الصدمة، بعد مشاهدتهم صورتها المنشورة في جميع الصحف اليابانية؟ كيف يعقل أن تتحول امرأة "حكيمة وجدية" مثلها إلى محتالة كبيرة، بين ليلة وضحاها؟ لن نجيب عن هذين السؤالين كي لا نفسد متعة قراءة الرواية، لكن ما يمكننا قوله هو إن إلهاماً سينزل على هذه المرأة في لحظة ما ويقلب حياتها رأساً على عقب. فذات صباح، على رصيف المحطة، "يجتاحها شعور بالامتلاء، أقرب إلى القدرة المطلقة منه إلى الرضا"، ويجعلها تشعر بأنها عثرت أخيراً على حريتها. حرية من دورها كزوجة الذي انغمست فيه، ولم يجلب لها سوى الكآبة والفراغ، من ذلك الرجل الذي اقترنت به في سن الـ 25، ولم يفوت فرصة من دون تذكيرها بأنه هو الذي يصرف عليها، من تلك الرغبات التي فشلت في تقاسمها معه، من ذلك الطفل الذي لم تتمكن من إنجابه. باختصار، من حياة لم تعد حياتها، وربما لم تكن يوماً حياتها، ومع ذلك كانت لا تزال تحددها كلياً، إلى حين انعتاقها.

وإثر تنعمها باستقلالية مالية جديدة، ومواجهتها التلف المبكر لعلاقتها بزوجها، تتحول ريكا تدريجياً إلى مستهلكة مهووسة بالتسوق وشراء ما كانت تقاوم شراءه قبل هبوط الإلهام عليها.

حال مرضية لن تقلقها، بل تتقبلها بـ "شعور بالامتنان التام"، ولا تلبث أن تأخذ بعداً آخر، وتتفاقم بشكل خطير إثر لقائها لدى أحد زبائنها بشاب يدرس السينما ويدعى كوتا.

ولوصف هذا الانزلاق تلجأ كاكوتا في الفصل الأول والأخير إلى جوقة أصوات تعود إلى جميع أولئك الذين كانوا يظنون أنهم يعرفون ريكا، علماً أنها هي شخصياً كانت بالكاد تعرف نفسها. وبين هذين الفصلين، نتلقى على لسان الراوية، الروائية سردية حسية ومتسلسلة زمنياً لتلك المرحلة المفصلية من حياة هذه المرأة التي ستؤول إلى انعتاقها، وفي الوقت نفسه إلى استسلامها لهوسها الاستهلاكي، فنتعرف إلى تفاصيل صغيرة حولها يتبين تدريجياً لنا أن جميعها ضروري لفهم انحراف مسارها، بدءاً بسوء تفاهمها مع زوجها والإهانات التي خضعت لها على يده، مروراً بالملذات الصغيرة التي ستسمح لنفسها بها، ووصولاً إلى تزويرها الوثائق ونهبها أموال زبائن المصرف الذي تعمل فيه، بالحمى نفسها التي ستعانق بها هوسها في شراء الثياب ومستحضرات التجميل وكم من الأشياء الأخرى الفاخرة.

ولدى قراءتنا سرديات نساء الرواية الأخريات ووصفهن لريكا، "النضرة مثل صابونة جديدة"، نستشف الأحلام المخنوقة نفسها والنزوات نفسها والآلام نفسها. وجهات نظر متعددة تمنح كثافة لشخصية هذه المرأة بقدر ما تعكس شمولية مأساتها وخيباتها، وأحياناً مرضها الاستهلاكي. كما لو أن ريكا ستقترف ما اقترفته من أجل أولئك اللواتي عرفنها من دون أن يعرفنها حقاً.

وتأسرنا هذه الرواية المشوقة بإشعالها لدينا رغبة شديدة في فهم كيف حطمت ريكا صرح حياتها الذي شيدته بيديها، ثم لماذا رمت بنفسها في مأزق خطير عبر سلوكها طريقاً مسدوداً. لكن "قمر من ورق" هي خصوصاً رواية حميمية تنجح صاحبتها في جعلنا ننزلق داخلها تحت جلد امرأة ذات شخصية معقدة، كريمة لكن هشة ونزوية، تخضع للأحداث من دون قدرة على وضع حدود لنفسها. امرأة تتألم بصمت من ذكورية زوجها وبروده، وتستسلم لنزوة التسوق كعلاج لفراغ حياتها وقلقها واكتئابها. إدمان حقيقي تصف كاكوتا بدقة آلياته التي تبدأ بحاجة ملحة إلى شراء أي شيء، ثم تقود إلى شعور بالامتلاء، بالقدرة المطلقة، فإلى السقوط من سحابة النشوة الملازمة لهذا الشعور، والتخبط في الندم والإحساس بالذنب.

نص يتأرجح إذاً بيسر مدهش بين سردية ارتهان لواقع يومي مؤلم، وسردية إدمان حقيقي مصحوب بفرار إلى الأمام يجذب بطلة الرواية بشكل لا يقاوم إلى "ذلك الجو الأثيري الذي يوفره المال". لكن إن بدت ريكا، من جوانب مختلفة، منفصلة عن الواقع، فإن كاكوتا من جهتها تغمس قلمها في واقع المجتمع الياباني الراهن لمحاصرة خصوصياته بنظرة بصيرة بقدر ما هي مريرة، مضيفة إلى النقد اللاذع للسراب الاستهلاكي والرؤية الرأسمالية للسعادة، نقداً عنيفاً للنموذج البطريركي وللقيود التي ما برح يفرضها على النساء.

وفعلاً، من خلال ريكا وأيضاً سائر النساء الحاضرات داخل الرواية، المنخرطات مثلها في حياة زوجية لم يكن بإمكانهن تخيل خيباتها قبل زواجهن، تصف الكاتبة بشراسة فراغ الحياة اليومية الذي تتخبط داخله معظم النساء اليابانيات، فسواء كانت زوجة بلا عمل أو بعمل بدوام جزئي، مع أو من دون أطفال، لم تكن أي واحدة منهن داخل الرواية محضرة إلى هذا الكم من التنازلات الذي كان ينتظرها داخل حياتها الزوجية، وإلى الارتباط بزوج غائب دائماً ومنشغل عنها بتطلعاته المهنية، وغارق في يقين تفوقه الذكوري.

ولوصف ذلك، تشحذ كاكوتا لغة باردة وناجعة تخلق توتراً خفيفاً، لكن حاضراً حتى النهاية، يؤجج شعوراً بضيق متعمد أمام سعي بطلتها المؤثر والمضني إلى بلوغ حريتها ومعانقة ذاتها ورغباتها.