تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ديوان "الشرقيات" لفيكتور هوغو كما تجلى في أعمال فنية

فيكتور هوغو
AvaToday caption
في الشعر الشرقي إذاً تذوق الشاعر نعمة تلك الصور الغريبة ذات البلاغة الكلاسيكية، قبل أن يسعى إلى إسقاطها في قالب عروضي فرنسي. وصحيح أنه كان قد أثبت مهاراته النظمية في "أناشيد وقصائد قصصية" (1828)
posted onJune 10, 2021
noتعليق

منذ مطلع القرن الـ 19، تحول شرقنا إلى مصدر شغف ووحي ودراسة لكتاب وفنانين أوروبيين كثر. الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو (1802 ــ 1885) لم يفلت من هذا الافتتان، كما يشهد على ذلك ديوانه "الشرقيات" (1829) الذي أقر في مدخله بأن "الشرق، إما كصورة أو كفكرة، بات للعقول والمخيلات مشغلاً عاماً خضع مؤلف هذا الكتاب إليه، ربما من دون علمه". ولأنه تحول بسرعة، بفضل هذا الديوان، المروج الأول للشرق والمحرض على التوجه إليه، يرصد متحفه في بلدة فيلوكييه الفرنسية لهذا العمل الشعري وظروف ولادته واحداً من مجموعة المعارض التي ينظمها حالياً تحت عنوان "أسفار إلى الشرق".

وتجدر الإشارة بداية إلى أن هوغو كان في سن الـ 27 حين أصدر ديوان "الشرقيات". لكن ذلك الذي سماه شاتوبريان "الطفل الجليل" كان مذاك وجهاً بارزاً من وجوه التجديد الأدبي والفني الذي أطلِقت عليه صفة "الرومنطيقية". وفعلاً، بعد شاتوبريان، لكن قبل موسيه ونرفال وغوتييه وبلزاك، وبالتزامن مع لامارتين وفينييه ونودييه، شارك هوغو بقوة في الغليان الثقافي الذي طبع تلك الفترة ولامس جميع ميادن الثقافة. ومثل معظم الرومنطيقيين، لكن بطريقة أكثر منهجية من أي منهم، لمع في جميع الأنواع الأدبية، وخصوصاً في الشعر.

1829 هو العام الذي انكشفت فيه للمرة الأولى تلك الخصوبة المدهشة التي ستتشكل منها أسطورة هوغو. فإلى جانب ديوانه المذكور، أصدر في ذلك العام رواية فضائحية مهمة ومبلبلة، "اليوم الأخير لمحكوم بالإعدام"، كتبها على شكل دفتر يوميات يخطه بطلها في الساعات الأخيرة المتبقية من حياته. أصدر أيضاً نصاً مسرحياً من خمسة مشاهد، "ماريون دو لورن"، تبنته "الكوميديا الفرنسية"، لكن منعته السلطة الملكية، ما أشعل نقاشاً صاخباً حوله. وكرد فعل على هذا المنع، كتب بظرف أسابيع قليلة نصه المسرحي الشهير "إرناني" الذي أثار إخراجه على مسرح "الكوميديا الفرنسية" مطلع العام اللاحق فضيحة وحماسة ساهمتا بقوة في فرض صاحبه كرائد "المدرسة الجديدة".

لماذا إذاً اختار هوغو الشرق لترك بصمته الأولى على الشعر الفرنسي؟ أولاً لأن الشرق كان موضوعاً راهناً آنذاك في أوروبا. فمنذ نهاية القرن الـ 18، أعادت سلسلة من الأحداث السياسية اهتمام الغرب بالحضارة العربية الإسلامية التي اعتاد النظر إليها كآخَره الحميم، وفي مقدمها حملة بونابرت على مصر، وتنافس النمسا وروسيا على الحدود الأوروبية للإمبراطورية العثمانية، وثورة اليونانيين على سلطة العثمانيين التي أثارت حماسة أوروبيين كثر. اهتمام غذته أيضاً أحداث ثقافية مهمة، أبرزها فك لغز الأبجديتين السنسكريتية والهيروغليفية، وتقارير البعثات الثقافية والعلمية التي رافقت الحملات العسكرية الفرنسية على حوض المتوسط. اهتمام وصفه إدوارد سعيد بالاستشراق الغربي ووجه إليه نقداً راديكالياً من منطلق كونه تشييداً أيديولوجياً لعالمٍ لا يأخذ في الاعتبار واقعه الحي، مهملاً التنوع، وأحياناً التناقض، في النظرة التي يلقيها مجتمع ما على مجتمع آخر.

القريحة "الشرقية" التي عبرت الشعر الأوروبي في العقود الأولى من القرن الـ 19 تمنحنا مثالاً على ذلك. ففي فرنسا، ألهمت ثورة اليونانيين باكراً قصائد غنائية بطولية أعاد فيها شعراء كاثوليكيين وأيضاً ليبراليين إحياء فصل الحملات الصليبية. لدينا أيضاً حركة العودة الشعرية إلى التوراة التي جسدها خصوصاً لامارتين في "التأملات الشعرية" (1820) و"التناغمات الشعرية والدينية" (1830)، وسعى وجوهها الرومنطيقيون إلى شرقنة كتاب الغربيين المقدس الذي رأوا فيه أيضاً التعبير الغنائي لعصور البشرية الأولى، فاستلهموا فصلي "المزامير" و"نشيد الأناشيد"، واعتبروا هذا الشعر المقدس أكثر قرباً من غنائية الشعراء العرب والفرس منه من فن بوسويه الخطابي. ومع أن هوغو تبنى هذه النظرة في مقدمة كتابه "كرومويل" (1827)، لكن لا أثر للتوراة في "الشرقيات"، باستثناء قصيدته الاستهلالية "نار السماء".

وفي بريطانيا، أسس الشاعر الإيرلندي توماس مور غنائية شرقية في ديوانه "لالا روخ" استقى هوغو منه على الأقل اسم واحدة من شخصياته النسائية، نورمهال، بينما جعل لورد بايرون من افتتانه بالشرق مصدر شعر جديد، حميمي وملحمي. أما الأدب الشرقي نفسه، وتحديداً الشعر العربي والفارسي الكلاسيكي، فشكل بفضل الترجمات التي حظي بها مصدر افتتان حقيقي وصريح في أوروبا، كما أقر بذلك هوغو على مستواه الشخصي.

وبالتالي، غالباً ما استُحضِر الشرق في مطلع القرن الـ 19 كمصدر تجديد للشعر الغربي الذي كان يسعى آنذاك لإثبات حيويته الجديدة. ولذلك، لم تكن كتابة ديوان "الشرقيات" عام 1829 عملاً ريادياً في موضوعه، لكن الطريقة التي اعتمدها هوغو فيه لمعالجة هذا الموضوع هي التي تعكس كل حداثته. وفعلاً، بفضل هذا الديوان، استعاد الشعر الفرنسي نشوة الألوان التي استقاها الشاعر خصوصاً من لوحات الرسام دولاكروا، مجاوراً تلك النيرة منها بالمعتمة. فالسحب في "نار السماء" حمراء وسوداء "تنتشي العين بها"، والذرة صفراء في "وداعات المضيفة العربية"، وفم المعذب بنفسجي في "لعنة". وحتى الليالي نفسها تلتهب بـ "بالقباب الزرقاء، مثل السماء التي تلونها"، بـ "المآذن البيضاء" و"الفوانيس المشتعلة على الأمواج" و"الأخضر المعتم لأشجار السرو"، أي بكل تلك الحدة البصرية التي تميز الليالي المتوسطية. عربدة ألوان أجفلت جميع النقاد آنذاك، لكنها فتنت وتركت أثرها على شعر غوتييه ولوكونت دو ليل ورامبو وكثيرين غيرهم.

وإلى جانب نشوة العين، لدينا نشوة الأذن في "الشرقيات" الذي يعج بالكلمات الغريبة ذات الأصوات المرهفة أو الحادة، كلمات استقاها هوغو من العربية والفارسية والتركية واليونانية الحديثة. ولأن القراء الفرنسيين لم يكونوا معتادين على مواجهة هذا الكم من المفردات الأجنبية داخل ديوان شعري، انتقد أصوليو اللغة هذا "الغزو الهمجي" لعجزهم عن تخيل فرحة الشاعر الناتجة من فرصة استخدام مثل هذه الكلمات، وعدم إدراكهم بأن الحبيبة التي أغلق الموت عينيها الجميلتين، في "أجزاء الثعبان"، كانت ستكون أقل فتنة، وذاكرتها أقل حزناً، لو لم يكن اسمها "Albaydé" (البيضاء). وعموماً، لطالما دافع هوغو عن ضرورة تخصيب اللغة الفرنسية بخصوصيات اللغات الأخرى، معتبراً منذ عام 1827 أن اللغة المجمدة في نقائها المزعوم مهددة بالموت.

وكعالم غريب وخلاب، وفضاء للشعر والرموز بامتياز، حث الشرق هوغو على تجديد نظام الصورة الشعرية أيضاً. فما يميز شعره، والأدب الرومنطيقي عموماً، هو تلك النزعة المنهجية إلى الاتقاد والتفكير بواسطة الصور، واستخدام أشكال التجانس بطريقة راديكالية وبسط مداها، وتفضيل الطُرُق التي تحرر الشاعر من الحس السليم والذوق السليم. وفي هذا السياق، منحه الشعر الشرقي، سواء كان توراتياً ("المزامير" أو "نشيد الأناشيد")، أو دنيوياً أمثلة كثيرة لم يتردد في ذكرها داخل ديوانه. مراجع جعلته، على سبيل المثال، يسمح لنفسه بتطوير على مدى 12 رباعية تلك الصورة الشعرية لعاشق تحول إلى ورقة شجر حملتها الريح إلى ما وراء الجبال لتحط بها على جبين حبيبته.

في الشعر الشرقي إذاً تذوق الشاعر نعمة تلك الصور الغريبة ذات البلاغة الكلاسيكية، قبل أن يسعى إلى إسقاطها في قالب عروضي فرنسي. وصحيح أنه كان قد أثبت مهاراته النظمية في "أناشيد وقصائد قصصية" (1828)، لكن لا مجال لمقارنة نصوص هذا الديوان بنصوص "الشرقيات" على مستوى اليسر المتري والإيقاعي، وحسي التناظر والمفاجأة. مهارات رافقت وعززت التنوع الكبير في الأنواع والنبرات داخل "الشرقيات" الذي نجد فيه كل شيء، أناشيد بطولية، مرثيات حالمة، أغاني جنود، مزاح بذيء، سرد، تأمل رؤيوي.

هكذا منح الشرق هوغو فرصة لحرية شعرية حددها في مقدمته لـ "الشرقيات"، بقوله، "حين ننظر إلى الأشياء من علو، نجد أن لا مواضيع جيدة أو سيئة في الشعر، بل شعراء جيدون أو سيئون. كل شيء يصلح لأن يكون موضوعاً. كل شيء قابل للانخراط داخل الفن وله الحق في المثول داخل الشعر. لا علاقة للفن بالأصفاد والكمامات. يقول لك، اذهب! ويفلتك في حديقة الشعر العظيمة، حيث لا فاكهة ممنوعة. المكان والزمان ملك الشاعر. فليذهب إذاً إلى حيث يشاء، وليفعل ما يعجبه".

ومع أن هوغو بقي حتى وفاته وفياً لهذه الحرية، لكنه لم يلازم شرقنا في شعره. ففي الثلاثينيات، ثم في دواوين المنفى الكبرى، مثل "العقوبات" (1853) و"التأملات" (1856)، لمع نجمه في الشعر ذي النبرة الحميمة، في الشعر السياسي ذي المنحى البطولي أو الهجائي، وفي الشعر الفلسفي. ومع ذلك، احتل الشرق أهمية كبرى في سلستي القصائد التي تفتح ديوانه الشهير "أسطورة العصور" (1859 ــ 1877)، وغذى وحيه بقوة في عمله الرسامي.

أما ديوان "الشرقيات"، فترك أثراً بليغاً على الاستشراق الأدبي والفني في أوروبا، كما يتجلى ذلك في أعمال بصرية وموسيقية كثيرة، ونمى رغبة كتاب وفنانين أوروبيين كثر في السفر إلى شرقنا، فتوجهوا إليه ممغنطين بالصور والأصوات الرائعة التي صقلها صاحبه فيه، من دون أن يزور هذا الشرق ولا حتى مرة واحدة!